استيقظت قبل كل تلك الورود التي انحنت في شرفة غرفتها منتظرةً الضوء ليوقظها على تموجاته المتراقصة ......
و غردت قبل كل العصافير التي اختبأت في أعشاشها بين أغصان تلك الشجيرات التي ما نفذت من شقاوتها و تسلقها عليها....
و نظرت بعينيها الزرقاوين إلى انتثار خيوط الشمس التي ما بخلت بنورها على كل حبة تراب تندّت وانتظرت بشوق حرارتها علها تمدها بالقليل من الدفء لتعوض الساعات الباردة في تلك الليلة وقد طالت و طال انتظار نهايتها ....
و أسرعت لتغسل وجهها الأبيض لتطهر كل بقعة منه و تبعد الغبار النائم عن عينيها الواسعتين و تمسح شعرها الأسود بقطرات المياه العذبة.....
و بأعلى صوتها وقبل سماع رنة منبهها الذي حذرته بالتخلي عنه إن أخل بالعهد ولم يوقظها .
نادت مسترسلة ماما بابا أخي.... صبوحة ..صبوحة استيقظوا.... استيقظوا طلع الصباح .....طلع الصباح انه أول يوم في المدرسة هيا كم أنتم كسالى .....
انتظرت طويلاً هذا اليوم الذي تخيلته كثيراً و اعتبرته حلم بعيد بعيد ...كان هاجسها...موضوع لعبها ....و سيرتها التي لا تنتهي ....
يومٌ لا تعرف الكثير عنه ...سوى أنه سيجعلها في مرتبة الكبار و ستعامل معاملتهم و ستتعلم الكثير مما يتعلمون تريد أن تكبر قبل أوانها لم تدرك أن هذه اللحظات التي تعيش لن تتكرر بسعادتها وهنائها وبراءتها وصدقها و جمال اللامبالاة فيها .
من الليلة الماضية جهزت كل أدواتها التي كادت أن تهترئ من كثرة ما أدخلت وأخرجت من و إلى درج خزانتها الصغيرة ....
كانت تخرجها لتلقي نظراتها الحذرة عليها ثم تمرر كفيها الصغيرين برقة لتودّعها بزفرة و تنهيدة عميقة ثم تدخلها مكانها المعهود بعد أن تعدها بأن الفراق بينهما لن يطول .
و أما ثيابها فقد كويت بحرارة لمساتها و حنان همساتها و عمق نظراتها التي ما تذمرت من كثرة ما ارتشفت .
و رتبت كل ألعابها في مكتبتها الصغيرة فستتكرم عليها بإعطائها قسطاً من الراحة إلى حين.
ما عدا ابنتها الصغيرة حنين تلك الدمية التي ما فارقتها أبداً منذ أن أحضرتها لها والدتها من مكان بعيد سافرت إليه عندما كانت في الثانية من عمرها .
تطعمها تلبسها تغسل لها ثيابها تحدثها تغازلها تسر لها توبخها إن حصل و أساءت التصرف.
لفتها بمنديل أبيض كي تصطحبها معها فهي رفيقة دربها وشاهدٌ على كل كلمة نطقت بها و كل أغنية لحنتها بأنغامها المتكسرة وكل دمعة ذرفتها على خديها الورديين و كل حركة وكل رقصة أدتها أمام مرآتها التي بالكاد ترى من آثار أناملها .
حاولت أن تهزها بهدوء لتنام لأن موعد النوم قد حان فهي تريد أن تطمئن عليها قبل أن تذهب إلى سريرها فالسهر ما عاد محبباً و النوم في الساعة الثامنة و النصف أصبح قانونا لا يستهان به .
و أحضرت كل أدوات إطعامها و جمعتهم مع كل الدفاتر و الأقلام والألوان و وضعتهم في محفظتها البنفسجية كي لا ترتبك إن جاعت ابنتها قبل عودتها إلى المنزل فهي برأيها تحتاج إلى الطعام كي تنمو كي تكبر فمن سيهتم بها و من سيعطف عليها غيرها وقد أخلصت لها طيلة تلك السنوات....و مهما فعلت لن ترد لها جزءً من معروفها ؟
حاولت بعدها أن تغمض عينيها أن تهمد أن تنام كي يسرع الصباح إليها لكن النوم خانها و هجرها هذه المرة و الليل أرهقها فهل ضرورية زيارته لها مع هذا الحدث الكبير .
و أخذت تخطط لما ستفعله في صباح اليوم التالي و تحاكي دميتها التي احتضنت أسرارها البريئة و تحاول استجداء سمع أخوها الصغير الذي أنهك من تكرار حكاياتها عن المدرسة و أوى إلى فراشه قبلها و الكآبة تبحر في فؤاده الرقيق ........ فها هي - توأم روحه - ستتركه وحيداً في روضته و سيعتمد على نفسه في الكثير من الأشياء من الآن فصاعداً و ستحمله مسؤولية تصرفاته و حركاته و خطواته المستقبلية.
و بعد ساعات غلبها النعاس و أرخى بعرفه عليها .... و أتى الصباح بعد كل تلك المشاهد التي لا تنسى .
ارتدت أخيراً ثيابها الجديدة و لملمت ضفائرها ورشت عطرها الجميل و حملت محفظتها و أمسكت بيد أمها التي احتضنتها و قبلتها و آثرت أن ترافقها في بداية مشوارها المدرسي.
أرادت أن تكون معها في ولادتها الجديدة و مشوارها الذي بدأ للتو فهي لا تعرف ما سينتظر ابنتها في أيامها المقبلة.
فهل ستكون هذه الأيام رقيقة عليها فطالما ما تحملت أن تُوبخ من والديها يوماً أو أن تُلام على تصرف خاطئٍ ارتكبته أو أن تتهم بفعلةٍ لم تقم بها أو أن يفرض عليها شيء لا تحبه أو تتمناه.
هل ستكون المدرسة بمستوى حلمها الذي ما فارقها أبدا؟
هل ستنقلها الدفاتر و الأقلام بأمانة إلى بر الأمان و نحو نمو فكرها و اتساع مداركها و بلوغ هدفها في الحياة لتصبح إنسانة لها تأثير و لها وجود كما هي الآن وهي طفلة؟
فمنذ ولادتها لم تكن ككل المواليد بشهادة الممرضة التي استقبلتها في الثانية الأولى عند خروجها من رحم أمها لم تصرخ كباقي الأطفال إنما شهقت طويلاً لتأخذ قدرا كبيراً من الهواء لتبدأ به رحلتها و فتحت عينيها بكل ما تملك من مساحة حولها لترمق كل شيء بإلحاح و استغراب تريد التعرف على عالمها الجديد و عندما أحضرت لها زجاجة الماء والسكر أطبقت عليها بإحكام شفتيها القانيتين لا تريد أن تتركها قبل أن تروي ظمأها و وقد امتدت يداها الصغيرتان لتسند تلك الزجاجة .
هل ستحظى بالرفيقات المهذبات المخلصات اللواتي سيشاركنها المشوار و يساندنها و تساندهن في العقبات والصعوبات ويحزن على حزنها و تحزن لحزنهن ويفرحن لفرحها و تفرح لفرحهن و يتمنين لها الخير كما يتمنين لأنفسهن و هي كذلك ؟
هل سيجمعها القدر بالمعلمات المتفانيات الرؤوفات اللاتي سيوصلنها إلى تهذيب و ترتيب أفكارها و صقل شخصيتها و ضمان استمرار معاني الحب و الخير والعطاء و البراءة في نفسها و يخشين عليها كما يخشين على أولادهن من غدر الزمن و سواد الأيام وعتمة الجهل و مرارة التخلف الاجتماعي الذي يلقي بظلاله على أدمغة الكثيرين ممن يعيشون بيننا و يأكلون الطعام الذي نأكل و يشربون الماء الذي نشرب بيد أن الجهل يعمي بصرهم و الوحشية تكبت بصيرتهم ويفعلون ما هو منبوذ و مكروه ومؤذي .
و السؤال الأهم هل ستكون بأمان وطمأنينة وسط الفوضى العارمة التي تعصف بالمكان
وهل ستَسلَم هي و رفاقها و مدرستها بمن فيها من القائمين عليها من أحقاد ممن وضعوا الشر نصب أعينهم و قاموا بإحراق المدارس أو استهدافها أو جعلها مأوى لكل من نذر نفسه لتخريب العقول وتدمير النفوس و قتل الأبرياء و هدم المساكن فوق رؤوس ساكنيها.
ولأن الإجابات تكاد تكون مستحيلة فلن تجد أمها سوى الصلاة والدعاء سبيلاً لحمايتها مع كل طفل بريء و كل معلمة متفانية و كل إنسان يحب السلام و ينادي به للجميع.
الأستاذة المحترمة م. دعد حسن .. كانت المقدمة رائعة ومفعمة بالصور الشفافة واللطائفية والبريئة الرقيقة كنسمة صباح . وكم قد ابدعت في التعبير للوصول الى كبد المقصد الرائع . نسأل الله أن ينعم على اطفالنا بنعمة الامان التي اضعناها بحماقاتنا جميعا . ولك ترفع القبعة لهذا الإبداع . سيدتي تقبلي مروري