إن موضوع الموت من أهم المواضيع التي تقابل الإنسان على الإطلاق , وكل إنسان فكر فيه كثيراً أو قليلاً فهو موضوع ينطوي على كثير من المفارقات والمتناقضات , وهو غالباً موضوع مزعج ومؤلم .
والموت ليس شراً وليس خيراً إنه انعدام القيمة , لكن الإنسان يخشى حقاً الموت ويعده أقصى ما يمكن التفكير فيه . فهو النهاية لأي تفكير , حيث ينعدم أي شي بعده . وما يميز تفكير الإنسان في هذه القضية وغيرها من قضايا ، هو درجة وعيه التي تفوق الوعي المفترض لباقي الكائنات الحية بمصيرها , والموت ليس مؤلم وليس هناك ألم بعد الموت . والإنسان لا يعيش موته بل يعيش موت غيره .
إن مجيء الإنسان المدرك الواعي لذاته إلى هذه الحياة هو بمثابة انبثاق من العدم , وهو أمر يذهل كل من فكر فيه بعمق , فهذا الانبثاق من العدم والشعور بالوجود الذاتي وإدراك الكون على هذا المستوى يعني أن إعجازاً كبيراً قد تحقق .
لذلك كان حدوث الموت والعودة إلى العدم أمر يصعب على أي إنسان تصوره واستيعابه وقبوله , ورفض الاقتناع بانعدام الذات أو النفس أو الروح , والإيمان ببقائها بعد الموت .
رغم أن الموت "نهاية"، بمعنى أن لا شيء يحدث للإنسان بعده , لأن وجوده المادي (البيولوجي) والسيكولوجي سوف ينعدم، إلا أن فكرة أن هذا "الأنا"، الذي شهدنا مولده مع بداية تفاعل الطفل الصغير مع العالم حوله، سوف يتوقف عن الوجود، هذه الفكرة هي ما يثير فينا ذاك الشعور العارم بالنفور من التفكير في الموت.
ويبقى من العسير للغاية الاعتقاد بأن وجودنا سيتوقف يوماً ما.
أمن الممكن التفكير في أنه سيأتي اليوم الذي لا يوجد بعده "أنا"؟
لقد تساءل البعض : عندما تتوقف وظائف الجسد عن العمل، وينقطع الوعي، وتتلاشى لحظات الحيوية من جسد ملأ الدنيا صخباً ، عندها.. هل يختفي معنى الإنسان نفسه؟
هل نحن ننتهي عندما تتحلل أجسادنا في التراب؟ هل الإنسان - كنتيجة - المحصلة لبلايين الخلايا المترابطة معاً , أو لتلك الإشارات والرموز المجردة التي ظلت تجري بدماغه طوال عمره؟ حتى لو آمنا بالتفسير المادي للإنسان وللتاريخ وللحياة .
كيف يمكن التغلب على هذه المعضلة؟
بالتفكير النظري المجرد كما يفعل الفلاسفة؟
أم بالممارسة العملية المباشرة كما يفعل المهندسون؟
أم بمزيج فريد من الاثنين كما علمنا الأنبياء؟
أم أنه ببساطة لا يوجد حل لمشكلة الموت؟
وقد وجد " سير جيمس فريزر , أنه في معظم المجتمعات البدائية يكتسب الخلود يقيناً لا يشك فيه . فالذي يموت يبقى في الوعي ويأتي في الأحلام ويستمر وجود تأثيره , وعند حدوث موت المقربين , يتغير نمط أو طريقة الاتصال بهم , فهم ما زالوا موجودين خالدو الروح . فالإيمان بخلود الروح ( أو النفس ) يصعب التشكيك به . فمن الصعب جداً تصور فناء وانعدام الروح . لذلك كان الإيمان القوي ( أو الحتمي ) بعدم فناء الشامل , فالروح ستبقى .
أن رؤية الذين ماتوا في الأحلام والتكلم معهم , هو من أهم عوامل التي أدت الإيمان ببقاء أرواحهم , وأن الموت لا يقضي على روح الإنسان . فها هي تعود بعد الموت في الأحلام .
فالموت باعتباره أحد الانشغالات العميقة للذات البشرية، كان ولا يزال مصدر تلك الشرارة التي تؤجج في الوعي الفردي والجماعي شعلة البحث عن المعرفة .
يقود التأمل في مشكلة الموت الإنسان للتفكير في قضايا فلسفية كبرى ترتبط بتساؤلات - مريرة ومتشائمة أغلب الأحيان - عن معنى الوجود، مغزى الحياة، الهدف من البقاء، وهل توجد حياة أخرى بعد الموت أم لا؟.
إنها الأطر الثابتة لما يمكن تسميته الوعي الديني في الإنسان ، الجذر العميق في كل فرد، يلتصق به لحظة ولادته لكونه عضوا في "النوع الإنساني" دون أن يملك اختيار ذلك.
من كل المصاعب التي يواجهها الإنسان تنتصب مشكلة الموت أمام وعيه ، تتحدى قدراته ، تهز كيانه، وتشكك في قدرته على الوجود. يبحث هذا المخلوق البائس عن منفذ ليهرب من المأزق الذي انتهى إليه فلا يقدر . الإنسان يطمح إلى تحدى الموت فيفشل كل مرة , فالموت هو اللغز الأكبر في حياة البشر.. المعضلة التي أعيت الفلاسفة والمفكرين والقادة والعامة.
وتاريخ مشكلة الموت هو قصة المحاولات التي بذلت للتأكيد على أن الموت - كما يود الإنسان أن يعتقد وكما تؤكد الأسطورة والأديان - ليس نهاية مطلقة , وأن البقاء بعد الموت ليس وهماً . والآن يظهر التشكك المتزايد في هذه التأكيدات المعتمدة .
وترتبط مشكلة الموت عند الكثيرين بمشكلة الشر. وعندما يأخذ عقل الإنسان في ربط هذه الإشكاليات بعضها ببعض تنبثق الممارسات الأولى لفعل التفلسف .
متى اكتشف الإنسان أنه سوف يموت لا محال ؟
كل الكائنات الحية لا تعرف أنها سوف تموت , فقط الإنسان عرف أنه سوف يموت حتماً .
يقول " أونا مونو " إن مشكلة الموت هي المشكلة الفلسفية الكبرى , واكتشاف الموت هو الذي يدل على مرحلة النضج العقلي للإنسان , وأن الوعي بالموت يمضي جنباً إلى جنب مع الاتجاه الإنساني نحو الفردية ومع قيام الفردية المميزة .
إن الحياة الواحدة للجماعة أو القبيلة تمتد على نحو متصل عبر موتاها , كما تمتد من خلال الأحياء من أبنائها , فالموتى من الجماعة تظل جزء من الجماعة مثلهم مثل الأحياء ,لهم تأثيرهم الكبير وأحياناً أقوى من تأثير أحياء الجماعة .
والشرط الضروري الآخر لمعرفة حتمية الموت هو نشأة التفكير المنطقي ألسببي , فهو الذي سمح للإنسان بأن يصل من الأحداث العديدة التي استطاع أن يلاحظها إلى قاعدة عامة أو قانون قوامه " أن البشر جميعاً يموتون " .
ومن أقدم الوثائق المعروفة لنا حول الموت هي ملحمة جلجاميش . لقد اكتشف جلجاميش أنه سيلقى نفس المصير الرهيب لرفيقه الحبيب " أنكيدو" أي الموت أو النوم الأبدي .
وكان كتاب الموتى ( حوالي 3500 ق . م ) يتناول رحلة الروح في دار الخلود باعتبارها يقيناً حقيقياً وباعث على البهجة .
أن الموت كفناء شامل يشكل مرحلة متأخرة في مواجهة الإنسان للموت . وتأكيداً لذلك هناك الكثير من البشر لا يزالون يعتقدون اعتقاداً جازماً في الحياة بعد الموت .
عندما يتحقق الإنسان من أن الموت هو فناء شامل , يغمره شعور بعبث الحياة بقوة لا مثيل لها , فإذا كان الإنسان سيبقى عدم عبر الأبد كله , فأي منفعة أو غاية لمن يتعب ويسعى .
بوجود الموت كفناء شامل تصبح الحياة عبث , لذلك سعى الإنسان وكذلك الأديان والمجتمعات لإعطاء معنى للحياة .
على الرغم من أن الموت لحن سائد في كل البقاع المتوحشة التي استوطنها البشر، في أصقاع الشمال وصحارى الجنوب، وفي الشرق القديم والغرب البري المكتشف حديثاً، إلا أن قلة محدودة استطاعت أن تطاول ببصيرة نافذة السر الأعظم الذي يكمن في فلسفة حيوية لا تعرف التشاؤم، قوامها أن الحياة فعلاً تستحق أن تعاش، وأننا مهما طال بنا الزمن ندب على ظهر هذه الأرض فنحن حتماً في النهاية مغادرون. إلى عالم آخر؟ أهي بداية الطريق الآخذ بنا صعوداً نحو الفردوس المفقود؟ أم أنها مملكة تحت الأرض، شديدة الظلمة كما تصورها الإغريق، حيث تنتفي - للأبد - الحساسية الإنسانية الفريدة القادرة على تذوق الألم واللذة؟
قال ليون برنشفيك : " لقد مات رجلاً عرف أنه سيموت زمناً طويلاً "
عندما قرأت هذه الجملة - وكان هذا منذ حوالي 40 عاماً- أثّرت فيّ كثيراً وهزت كياني , مع أن الكثيرين يجدونها شيئاً عاديا وطبيعياً وبديهياً وليس فيها شيء غريب , والمؤثر أكثر أن برنشفيك الذي عرف وأدرك ذلك , مات .
إن موت كل منا حتمي ولكن أغلبنا لا يستطيع تصور حدوثه , ففناء الروح أو النفس غير معقول , حتى "كانت" لم يستطع تصوره ولم يقبل به.
إن درجة تطور الوعي في الإنسان ومقدار شعوره بقضية الموت دون شك مشكلة وجودية بالدرجة الأولى لأنها ترتبط بعالم الفرد الداخلي ومدى إضاءته لدنيا اللاوعي عبر الإدراك الواعي للقضايا الشخصية والاستنتاج العام الذي يمكن التوصل له أن مشكلة الموت تتناسب طردياً مع درجة الوعي الذاتي بالنفس.
فالوجود وجد عندما وجدت أنا- أو كل منا- , وبزوالي عند موتي سوف يزول هذا الوجود , هل هذا ممكن أن يتصوره ويقبل به أحد منا؟
إن هذا غير معقول؟ أ بعد موتي سوف ينتهي كل شيء ؟
هل هذا معقول؟
ومع ذلك سيحدث فعلاً , وهذا ما يهز الكيان .
لقد تعامل البشر مع قضية الموت بطرق كثيرة, وقد حققوا المطلوب في أغلب الأحيان, وهو القناعة الفكرية والرضا النفسي , وأهم هذه الطرق :
1 - القبول بموت مؤقت مثل النوم يكون هناك صحو بعده وقد تبنى هذه الطريقة الأغلبية , فالحياة هي اختبار , وهناك بعد الموت الحياة الأبدية .
. وأمن البعض الآخر ببقاء الروح ولكن مع تغييرها للجسد عند الموت الذي يكون للجسد فقط " بالتناسخ
2 - وقام البعض بالانتماء إلى بنية أكبر وأشمل وأطول عمراً تبقى بعد زواله , فهناك من يؤمن بأنه جزء من هذا الوجود أو بوحدة الوجود , أو غير ذلك كحزب أو جماعة . . , أي يؤمن ببنية أوسع منه ينتمي إليها وتبقى بعده , وهؤلاء قبلوا بموتهم وهم يؤمنون أنهم سوف يبقون كجزء من هذا الوجود في مكان وزمان معين , كجزء من البنية التي ينتمون إليها , وكان مبدأ غالبيتهم عميل منيح وكب بالبحر فلا يصح إلا الصحيح أو اعمل واجبك تجاه الذي تؤمن به, وحققوا بذلك الرضا الفكري والنفسي .
3 - وقام البعض بتناسي ذلك أو عدم التفكير به , والانخراط في الواقع والبحث عن اللذة والسعادة وتحاشي الألم , والعيش كوجود فردي ذاتي فقط , وقد فعل ذلك كثير من الفلاسفة , فكان يقول كل منهم : عندما أكون موجوداً يكون الموت غير موجود, وعندما يوجد الموت أكون أنا غير موجود لذلك لا يهمني موتي , فقد أغمض عينيه وتناسى الموت . والكثيرين من غير المؤمنين ببقاء الروح يفعلون ذلك .
4 - وهناك من لم يقتنع بحتمية الموت وأخذ يسعى للتغلب عليه , وكل حسب وضعه وامكاناته, فقد بحث الكثيرون عن إكسير الحياة وبذلت ملايين من ساعات التفكير والعمل والتجارب , ضمن الخيارات المتاحة المتواضعة للوصول إلى إكسير الحياة وقهر الموت ولم يتحقق شيء.
والآن ما زال الكثيرون يعتبرون أن الموت يمكن تأجيله أو القضاء عليه .
فقد جرب التبريد للاحتفاظ بالجسم أو الدماغ فقط لمدة طويلة دون تلف ريثما يتم التوصل إلى معالجة أسباب الموت . وفكر آخرون بنقل وعي وأحاسيس وذاكرة الإنسان إلى الأجهزة والبنيات الإلكترونية التي يمكن إصلاحها أو تبديل الذي يتلف منها وبالتالي الإبقاء على ذات الإنسان متوضعة ضمن هذه الأجهزة وإلى أزمان غير محددة .
والكثير من علماء البيولوجيا يعتبرون أن الموت له دور ووظيفة هامة يؤديها , وأنه كان من الممكن أن لا تموت الكائنات الحية , أو تعيش إلى فترات طويلة . وقد لوحظ أن غالبية الكائنات الحية تعيش فقط للفترة الكافية للنضوج والإنجاب والكافية لاستمرار النوع . وكذلك وجد أن الخلايا الحية تموت بعد فترة زمنية محددة فهي مبرمجة فزيولوجياً على ذلك, ويمكن من الناحية النظرية التحكم بهذه البرمجة وجعلها تعيش لفترات زمنية غير محدودة .
وفي رأي البعض , يمكن قهر الموت في المستقبل .
المؤمن بالله تعالى يعرف أن الروح لا تفنى أبداً بل قدر الله لها أن تعيش أكثر من حياة وهي الدنيا والبرزخ والآخرة حيث الخلود.. أما الجسد فيفنى ثم يعود.. (( وماذلك على الله بعزيز )).. وخوف الإنسان من الموت طبيعي ومهما كان واعي لايمكنه التغلب عليه لأنه خُلق معه ولكن الفرق فيمن يعرف حقيقة الموت ومن لايعرف حيث يكون أكثر خوفاً
مقالة كاملة ممتازة، أفضل ماقرأته على السيريانيوز برأيي، ولسخرية القدر أنا في عجالة الآن، بس كلمتين: أحترم رأي كلا السيدين المعلقين، وكل الإعجاب والثناء للأخ الكاتب البارع.
شكراً للأخ الكاتب على المقال الجميل والهام. أنا فقط أتكلم من وجهة نظر أخرى لتكتمل معها فسحة الأمل بالقيامة. أحببت كشخص أؤمن بالسيد المسيح أن أشير فقط إلى أنّ هناك شخص واحد في تاريخ البشرية قد غلب الموت وهو الرب يسوع المسيح. هو غلب الموت وقام في اليوم الثالث. المؤمنون به يؤمنون بالقيامة ولن ينتصر الموت على قوة الحياة أبداً.
معظم العلماء والفلاسفة يرون ان الموت هو خروج الروح او الحياة من الجسد...لكني شخصيا اراه العكس اي ان الموت هو خروج الجسد عن الروح فالاصل روح بلا جسد منح لها الجسد ثم اخذ مرة اخرى اي اننا كائنات روحية تعيش رحلة بشرية.. قال الله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) البقرة: 28
مقال جميل .......مشكور