كانت الساعةُ تدقّ معلنةً الوقت المتأخر لحنينه ، إنها الثانية عشرة إلا ربع ليلاً.
نظر إلى زجاجة " الويسكي " التي تنظر إليه بعينين جامدتين منذ أيام نظرة ضبابية لتعصف برأسه أصواتٌ ووجوهٌ وكلماتها .
ماتعوّد على المشروبات الكحولية إلّا بعد أن تركتهُ ومضت،لكنهُ ومنذ تلك اللحظة التي توقف عندها الزمن مضى في الاتّجاه المعاكس تماماً.
تعوّد أن يمضي هربهُ من شغفهِ بها إلى تلك المشروبات التي تجمّدُ العواطف كمسكّناتٍ لفتراتٍ تطول وتقصُر.
لكنه في هذه الليلةِ بالذات وفي هذا التاريخ بالذات هربَ منها ومن كلّ الفتيات اللواتي هرب إليهنّ ليحذفها من طيّات وعيهِ،كان واهماً أنهُ باستطاعتهن إعطاءهُ ذلك الدواء السحري للنسيان العاصف بالشهوة وبالأحضان .
ولكن مسمار شوقهِ كانت تدقّهُ مطرقة خيانته كلّما صافحتهُ الوحدة ،ويتذكر ظلمُهُ لها بتلك الكلمات التي سببت دمار ماحلّ بعدها .
فقد وهم وهو في أحضان شهوتهِ من فتاةٍ لأخرى بأنه وباستحضارهِ ما كان يزعجها سينزفُ حبها من أعماقه ،ولكنّ رَجْعَ الأيام ظلّ يستمر والصداع يزيد.
مرّت عشرون دقيقة على تلك النداءات من داخله وهو يفكّر : ننغمسُ في حياتنا كي لانسمع صريخ قاع عواطفنا ،ولكن وفي أقلّ اللحظات ضعفاً تغزونا هذه العواطف بعواصف ترمينا على سرير الكآبة لأسبوع على الأقل.
قد كان يأكلهُ ندمهُ يوماً بعد يوم ويزداد أنينُ انغماسه بخياناتهِ لها ،ورغم كلّ ذلك يزدادُ شهيقُها وزفيرُها في رئتيه،ويبقى وجهها عصيٌّ على الذّبول في تفكيره .
تغريهِ زجاجةُ "الويسكي"شاهرةً جسدها أمامهُ على طاولة أشجانه بجانب ذلك البرواز الخشبيّ المطعّم بالصّدف الملوّن الذي أهدتهُ إليهِ يوماً، تومئ له كي يجترع قطراتها العجائبية والتي تغرقهُ في سُباتٍ جديد علّهُ يلتقي بها في أحلامه، ويسمعُ منها شرحاً مفصّلاً ،فهو واثقٌ من أنها سامحتهُ ،فالحب لاتطحنه مطحنةُ الأيام مهما دارت رحاها فوقه،وهو واثق أيضاً أن القدر سيعطيه شرحاً أوفى لكل تلك الأحداث المأساوية .
يجترعُ غصاته بكأس هذيانه، يفكّ أزرار قميصه الزرقاء ويضع يدهُ بجانب قلبهِ كي يكفّ عن النداء باسمها ،وقبل أن يفكّها كلّها ،يفردُ النوم جناحيه فوق أهدابه وتمضي الساعةُ في ركضها المتواصل .
يستيقظ في صباح دهشته حيث يذهب ليغسل وجهه ، فيناديه صوتها من مرآته : أنت أجمل عندما يكون شعرُ ذقنكَ أطول ( أنهُ صوتها جاءهُ في الحُلُم ) يعدل عن فكرة حلاقتها مبتسماً ،يغمضُ عينيه ليعتصر أشواقهُ ويمضي .
يلبسُ بدلتهُ الرسمية السوداء ويذهب إلى عمله المعتاد هارباً منها إلى يومٍ جديدٍ ثانٍ، قبل أن يعود المساء وتغزوهُ عيناها الناعستين من جديد .
صورة رائعة .. مرة ملونة بأزهى الألوان ومرات بالأبيض والأسود الساحر ... بالتوفيق