مع حلول نهاية العام كان الحظ الاكبر لتنبؤات العام الجديد ، والتي وجدت أصداء لدى عدد لا بأس به من البشر، حيث قام البعض بتحضير أنفسهم لما هو قادم وبعض آخر لجأ للروحانيات فأقاموا الصلوات ووصلوا الليل بالنهار وهم يدعون لأنفسهم وأحبائهم. ما الذي دفع هذه المجموعات التي تضم بينها مثقفين وأساتذة جامعات ومدرسين، للإيمان بكل جوارحهم بحتمية صحة اقوال المتنبئين والمنجمين والمتوقعين.
عشرات الكتب التي تناولت المفاهيم الحديثة في صناعة ورسم المستقبل لتغذّي غريزة الخوف لدى البشر لم تساعد على احتواء هذه الهستيريا الجماعية. الخوف من المجهول لا يقتصر فقط على النهايات الكارثية بل يسبقها بآلاف الخطوات التي نعيشها كل يوم .الخوف من الارتباط بعمل قد نفشل فيه أو شخص قد ننفر منه أو موعد قد نخلف به. الخوف من قول الرأي وسماع رأي الآخر فينا الخوف من التغيير مع أنه الأفضل ، والخوف من الحب لأنه قد لا يصلح . والخوف من الآخر لأننا لا تعرف سوى ما هو مألوف لنا. الخوف من برد قد يُمرِض والخوف من حرّ قد يهلك والخوف من أكلة قد تزيد الوزن.
لكن ماذا عن الخوف الذي يُقيِّد ؟ الخوف بمعناه النفسي العام- الفردي أو الجماعي- يشكل سمة من سمات الإنسان فهو جزء من غريزة حب البقاء. اما ثقافة الخوف تعكس موقفاً وجودياً أصيلاً في الحياة الإنسانية، عززته التفسيرات المختلفة لكثير من الظواهر الوجودية والإنسانية والطبيعية.
وقد حاول الإنسان ان يتحرر من كثير من التصورات عمّا يحيط به من ظواهر وخرافات وأساطير، ولعل " الخوف " من المفاهيم التي وجدت لنفسها حضنا دافئا في مجتمعنا فغدت بذلك ثقافة ملازمة للفرد حتى بعد بلوغه درجة من النضج والوعي والاستقلالية، هذا الخوف الذي تجذّر برعاية الأوصياء الذين حرصوا بكل عناية على زرعه في النفوس باسم الاحترام حتى بتنا لا ندري متى نخاف ومتى نحترم ؟ وهل الاحترام مقرون لزاما بالخوف أم أن لكل منهما وجهته الخاصة ؟
لاشك أن هذا الخوف الخائف من نفسه لم يتوان قطّ في اشتقاق وتكريس مفاهيم أخرى من قبيل التبعية والخضوع وفقدان الثقة بالنفس والجرأة باعتبارها السبيل في أثناء اتخاذنا لكل مغامرة جديدة، ما يجعلنا نخشى كل فعل نُقدم عليه حتى وإن كان نافعا، أو كل شخص نتعامل معه يفوقنا سلطة أو معرفة. فإن تعّدد التأويلات والتفسيرات وخلط الأسطورة بالخرافة في جوانب كثيرة وشيوع ثقافة الجهل والثقافة الشفوية عزز من ثقافة الخوف، وقد انعكست هذه الثقافة لدى الناس في العالم العربي نتيجة لتراكمات تاريخية، منها التنشئة الأسرية والطبقية والقبلية في الجانب الاجتماعي، ومنها غياب مفهوم التعددية على المستوى السياسي، وغياب العدالة الاجتماعية، واتساع الهوة بين من يملكون ومن لا يملكون على المستوى الاقتصادي، و التمزقات النفسية، والممارسات غير السوية التي تحكم الأخلاقيات الساندة بين الأفراد والجماعات والحكام والمحكومين وأصحاب العمل والعمال وغير ذلك.
وربما نلاحظ مع مرور الزمن زيادة ملحوظة في العناصر التي تزيد من سطوة الرعب وتفشي ثقافته في العالم كله فقد تعززت ثقافة الخوف من الآتي في شكل خوف من المستقبل:فقد الوظيفة والفقر والمرض والشيخوخة، والخوف من عدم الإحساس بالأمن، في شكل عدو خفي ينتظر قدومه عند أول منعطف يتمثل في لص أو مجرم أو منحرف ، وربما في شكل سائق متهور أو حريق مفاجئ أو إعصار أو بركان، إلى جانب الانتهاكات المباشرة للحرية الشخصية في شكل التجسس على الأمور الخاصة أو معاقبة على الرأي أو الموقف أو الاتجاه بشكل غير منهجي أو قانوني أو أخلاقي حسب الأعراف السائدة ويبدو مجتمعنا العربي منجماً لثقافة الخوف على هذه المستويات كافة فتبدو التنشئة الأسرية اللبنة الأولى في بناء ثقافة الخوف، في العلاقة الزوجية والاسرية ، إذ تبدو العلاقة بين الذكورة والأنوثة علاقة خوف وتناقض قد يولد الكراهية المستبطنة، فالذكر يستغل ميزته ليزرع الخوف في قلب الأنثى، ويمتد الخوف بين رتب متسلسلة في أي مجال عمل، فالأدنى دائماً يعيش حالة رعب من مصير مجهول، وينسحب هذا على التركيبة الاجتماعية الإقطاعية التي تزرع الخوف نتيجة التناقضات التي تغلب المصالح الأنانية الفردية المغلفة بالكراهية على القواسم الإنسانية المشتركة، فتبدد ملامح الثأر والانتقام والكراهية مؤسسة لثقافة الخوف. وإذا كان الخوف من نصيب الأنثى في معظم الأحيان فإن الرجل له نصيبه من هذا الخوف على المستوى الوجودي والإنساني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
ومما لا شك فيه أن ثقافة الخوف تبدو في الرواية العربية معقدة وملتبسة ، ولا نستطيع أن نجد حدوداً ظاهرة بين صانع الخوف ومن يقع في قلبه الخوف ، فالخوف مزروع في قلوب كل من الضحية والجلاد ، وكأن أحدهما متربص بالآخر ، وينسحب هذا على الوظائف والمتواليات البنيوية المختلفة من رجل وامرأة ومسؤول وموظف وحاكم ومحكوم وغني وفقير إلى غير ذلك من علاقات ..
جميل أن نخاف حتى نحترس ونحتاط ، جميل كذلك أن نضع في الحسبان موقف الآخرين في كل خطوة نخطوها، وعظيم أيضا أن تمثُل أمامنا تلك النظرة التنبؤية للمستقبل وصعابه حتى نعمل باستمرار على تحسين أدائنا كما خططنا، بما يضمن ثقة الآخرين واحترامهم. لكن أن يكون خوفنا لأجل الخوف، خوفا لأجل اللامبادرة واللاحركة فهذا ما نخشاه بالفعل، بحيث نخاف من الآخر أو من المجهول في كل ما نُقدم عليه حتى وإن كان فيه مصلحة – مشروعة – ورقيٌّ للفرد أوللجماعة.
لايتعلق الأمر هنا بحالات الإرتباك، فذلك ممكن تجاوزه، ولا بحالات مرضية فحتى الأسوياء – بعضهم - قاصرون إلى حد ما، وإنما هو مرتبط أساسا بمدى القدرة على التوفيق في الإجابة على السؤالين : "من أنا من منظور أنا ؟ ومن أنا من منظور الآخرين؟ " . وعليه فعدم إعطاء كل طرف حقه من الإجابة والاستجابة في ذات الآن سيكون مرده حتما إلى قضية كبرى متجسدة في التربية التي غالبا ما تكون مزعزعة، ما يجعلها بذلك مزعزعة الفرد والمجتمع على حد سواء. لكن ما يقلقنا حقا ونفكر فيه كثيرا هو أيهما سبب وأيهما نتيجة؟ هل انتشرت ثقافة الخوف في مجتمعنا بسبب استخدام طريقة التخويف لفترة طويلة؟ أم أننا بتنا نستخدم طريقة التخويف لأن ثقافة الخوف منتشرة في مجتمعنا؟ا.
https://www.facebook.com/you.write.syrianews