syria.jpg
مساهمات القراء
مقالات
الإسلامُ: ثورة قلوب... لا ثورة قتل و حروب ...بقلم : عبد الجبارجبور

يكثر الفسادُ في الأمّة فيثورُ الناسُ و يقلِبون النظامَ القائم، فتستقيم الأمور حينا، ثم يمرّ الزمن، فيعود الفسادُ بشكل جديد، و نمطٍ مُختلف، فيضجَرُ الناس مرة أخرى و يعودُ الهُتافُ من جديد و يطالبُ الشعبُ بقلب نظام الحكم، و استبداله بحكم راشد، ديمقراطي و عادل، فيكونُ ذلك، ثم يتكرر الأمرُ مرّاتٍ و مرّاتٍ، و تتعاقبُ الأجيالُ و تسقطُ الأنظمة مرّاتٍ و مرّاتٍ، و يعودُ الفسادُ مرّاتٍ و مرّاتٍ، وهكذا تمضي أيّامُنا و تضيعُ  و تضيعُ مَعها أحلامُنا و طموحاتنا...، و يبقى الفسادُ هو السيّد السّائد، يحكمُ الحاكمَ و المَحكوم.


       لماذا تنظر الشعوبُ إلى الأنظمة على أنـّها أساسُ الفسادِ و الظلم؟  أليس الفسادُ مُستشر في الرّعية برُمّتها، و أنّه لا يفسد وليُّ الأمر إلا إذا وُجد من يفتحُ له سبيلا لذلك؟ ألم تولد الأنظمة من رحم الرّعية؟ أو ليس الأمر كما قال عليه الصّلاة و السَّلام: "كما تكونوا يُوَّلَ عليكم"؟

 

 

      إن الكثرة المُكتسحة للشوارع عند الثورات في مدننا العربية ليست دليل قوّة، و لا تمثل بالضّرورة الحق المنشود، بل هي غوغاءٌ لها جلبة، لا تصلحُ إلا لخدمة مَصالح أعداءِ الأمة، فكلمة "إرادة الشعوب" لا مكانَ لها من الصِّحة في شيء، فالحشد الذي هو بلا رأس مُفكر و لا عقل مُدبِّر و لا تحكمه فكرة ولا يتبع راية و لا توحِّده غاية، إنّما هو حركة غوغائية، قد ربما تفسد من حيث أرادت الإصلاح.

 

 

      ألم يؤنب اللهُ سُبحانَه المُسلمين في غزوة حُنين لتباهيهم بكثرتهم:" ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم...   وقد ورد أيضا عن النبي عليه الصَّلاة و السّلام قوله: "يوشك أن تداعى عليكم الأممُ كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل: "أومن قلة نحن يومئذ؟" قال: "بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاءٌ كغثاء السّيل، ولينزعنّ الله من صدور عدّوكم المَهابة منكم وليقذفنّ اللهُ في قلوبكم الوهن" فقال قائل: "يا رسول الله وما الوهن؟" قال: "حبُّ الدنيا وكراهية الموت".

 

        إذا، حبُّ الدنيا هو سبب الوهن و الضعف و هو بالتالي أصلُ الفساد. لكن ما الدنيا؟ أليست المَصالح الشخصية، و الأنانية المُفرطة و حبُّ الثروةِ و المال، و الجاه و السّلطان، و المجدُ و الشهرة، و الاستبدادُ بالرّأي و احتقار الرّأي الآخر؟ أليس حبّ الدنيا هو ما جعلنا نخسرُ الدنيا؟ و هل في دنيا الناس على أيامنا، من حُفظ من هذا المَرض الخبيث (حاكما كان أو مَحكوما)؟  ألم يقل الله سبحانه في مُحكم التنزيل:" إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" الرعد:11 هل خصّ الله سبحانه و تعالى في الآية أولي الأمر فقط أم الشعوب بأسرها؟

 

        دعنا نرجع قليلا إلى سيدة ثورات كل العُصور، و هي ثورة الإسلام التي قام بها النبيُّ عليه الصّلاة و السّلام بأمر من ربه سبحانه، و بإتباع هديه و تعاليمه: فقد بدأ النبيُّ صلى الله عليه و سلم ثورته وحيدا، وسط مُجتمع عدائي، فاسد الدين والعقيدة، شديد التعصّب للباطل، جعل مُعتقداته الدينية في خدمة مَصالحه الدنيوية، فاختلطت بذلك على الناس عقائدُهم، و استولى ذوو السّلطان على رقاب المُستضعفين فاستعبدوهم، و أكلوا حقوقهم، فما كان من النبي صلى الله عليه و سلم إلا الشروع في زرع بذور إيمان جديد يكون فيه صلاح دنيا الناس و آخرتهُم، أي أنه بدأ بتهيئة القلوب و تطويعها و إصلاح الذمم و تنظيفها كي يتهيأ له إصلاحُ المُجتمع برمته.

 

        لم تسمع قريشٌ بأمر الدين الجديد إلا حينما بدأ مُستضعفي القوم يقبلون عليه و بدأ يهدد مصالحهم السيادية و التجارية، لم يصحب ميلادُ الثورة الجديدة هتافٌ و لا صراخٌ و لا قتلٌ و لا مُصادماتٌ، حتى أ ُمِر المُسلمون بالجهر بالدّعوة التي كان لا بدّ من الجهر بها لتعمَّ و تنتشر، و إلى هنا لم يَستعملِ النبيُّ عليه الصّلاة و السّلام سوى سلاحّ المنطق و الحُجّة و البيان.

 

       كان عليه الصّلاة و السّلام يأسر الناس بحديثه و حُسن مَنطقه فيُميلُ القلوبَ إلى جانب الحق فيملكها، و يصنعُ من قساةِ القلوبِ، أناساً غاية في الإنسانية و رقة الشعور، فيُحبونه إلى درجة التضحية بالنفس و الأهل لأجله، فكان بذلك آلة تصنعُ من الأعراب الأجلاف، خيرَ أمة أخرجت للناس، فاجتمع له من هؤلاء الكثير في غضون بضعَ سنين، فجعل منهم جند الله، المُحاربين في سبيل إعلاءِ كلمته و نشر دينه، لا بحد السّيف كما يقول أعداؤه، بل بالاستيلاء على القلوب بالحق، و لا شيء غير الحق.

 

 

        أصبح أتباعُ النبيِّ الأمي، جيشَ الله في الأرض، فسار بهم إلى مكة فاتحا، فدخلها شاكرا الله على أنعمه، مطأطأ الرّأس، يكاد يلمسُ سنام جمله بلحيته، و من غير حربٍ و لا سفكٍ للدِّماء، و عفا عمّن كانوا بالأمس القريب، يؤذونه و يحاربونه فجعل من أعداء الأمس أخوةً و أحبة يدعون بدعوته و يستميتون في حمايته.

 

         كانت ثورة النبي عليه الصّلاة و السّلام ثورةُ قلوبٍ رحيمةٍ تشبّعت بالإيمان، فأسرت قلوباً أخرى و استولت عليها بنفس الذي أسُرَت هي به، قبل أن تستولي على الأراضي و الحُصون، فكان منطقُ الناس من أهل الكتاب و إيمانُهم السّابق ينهارُ أمام الإيمان الجديد الذي أعاد لقلوبهم حياتها :"وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ" المائدة:83، فيؤمن بإيمان القساوسة و الأحبار منهم، خلقٌ كثيرٌ من اليهود و النّصارى. 

 

        لقد تعجب المؤرِّخون من ثورةٍ انتشرت في بضع سنين، في ثلثي الجُغرافيا المعروفةِ آنذاك، من دون مَذابح و لا مَجازر و لا قتل و لا تمثيل ولا خطف و لا تفجير، لأن أسوتهم في ذلك كانت نبيُّهم مُحمّد عليه الصلاة و السّلام، و الذي كان يوصي في المعارك بعدم قتل النساء و الأطفال و الشيوخ و من احتمى بصومعته من أهل العبادة و حتى بعدم إهلاك الدّواب و قطع الأشجار، و قد كانوا آنذاك يحاربون فجرةً كفرةً، مُعتدين على حُرمات المُسلمين.

 

       بهذا الخُلق العظيم، قامت ثورةُ الإسلام و انتصرت، و تمكّنت و انتشرت، ودامت و تأصّلت، لأنّها ثورة قلوبٍ آمنت، و أنفس ٍ أخلصت، و عقولٍ جُعلت في خدمة إيمانها، فأين هذا من ثورات اليوم؟ شعوبٌ كغُثاء السّيل، شرُّها في كثرتها، و نُصرتها لما فيه صَلاح عَدُّوها (بعلم أو بغير علم منها)، يأمرون الناس بما ليس فيهم، و لو كانوا في مكان من يعادون، لفعلوا مثل فعله، و لصاروا على نهجه، و لقد جاءتنا الأيام من قبلُ بالدّليل على ذلك.

 

 

       إن القلبَ هو محلُّ التغيير و هو مَبدأ الثورة على الباطل، فلنبدأ بأنفسنا نربيها على ترك الأهواء و نصرة الحق و إقامة العدل و الحرص على الواجب و حسن الظن بالناس، هنالك فقط تتحقق الثورة و تستقيم الأحوال و يُصبح حال الناس كما أراد لهم ربُّهم سبحانه.

 

https://www.facebook.com/you.write.syrianews

2014-05-16
التعليقات