syria.jpg
مساهمات القراء
قصص قصيرة
موعد خريفي ... بقلم : يوسف السقا

 1

وهي في غمرة ِ النسيان , تُعلق أنظارها على موعدٍ لن يأتي , وبريق عيناها غالباً ما بدا مبهم المعاني , و آذانها تعودت أن تسمعَ إيقاعات قلبها التي تُعزف على وترٍ مصنوع من قوس ِ قزح , وأناملها تخط ُ ذكراها بمداد الحقيقة .


مع استنفار ِ عصافيرُ الوجود لرقصاتها فوق عيدان الأقحوان المتكسرة من لعنة ِ ريح ِ ساذجة , يبدأ ُ فجر ٌ جديد مع نافذة ِ أعلنت لها الصداقة , وبإخلاص ٍ تسترق ُ السمع عن أمر ٍ جهلتْ معانيه .

 

2

نهضت فاتن من فراشها في صباح ٍ خريفي على همهمات  ِ ستائر ِ الغرفة ِ , التي كانت تحكي لها قصة ألف ليلة وليله . نظرت ْ من خلالها لتُشاهد عبّر الزجاج المغّبر الأبجور المعرّبد من سكرة ِالعاصفة .اختلست نظرة ً إلى الشارع ِ الذي أعلن هدوءه وهي تسحب ُ شعرها إلى الوراء ِ .

 

أقسمت بأن يكون هذا صمت ٌ لا يستبيحه ُ أحد , لينتهي الحديث إلى آخر ِ الزمان . هئنذا أقرع ُ نواقيس رحلة ٍ أبدية عبر عيونك ِ البحرية ِ ,لأتصل بالسماء ِ السابعة عبرَ جديّ السابع لأسمع قصص خلت عن سجلات ِ العاشقين . وتلامذة عشتار لِِِتبدو هياكل في صحف ِ الأرامل وهنّ يستعرضّن أخبارهنّ في مروج بابل وسفوح ِحضرموت .مستأنسين بلعنتها لجلجامش وأنفاسهنّ الباردة تستقر ُ فوق سرير الموت كزجاج ٍ مكسر .

مخلفة عنوانك في صندوق الدنيا لأحفادك ِ ليحكي لهم عن يوم ٍ خريفي ّ ,وقرب عتبات العذارى يكون ذبح القرابين  ,وبين أيديهم يُترك دم مسفوح متخثر من قسوة ِ القهر ,ويُعلن الخريف رحيله إلى السنةِ القادمة ِ .

 

وتدخل الكائنات في سبات ٍ عميق , لتصحو بعد انتهاء حكم دكتاتوريا ً وصل إلى عامهِ الأول ,وأنفاس النساء تنبعث كثريات على أسقف ِ الشقق المفروشة ِ وهنّ ينتظرنّ فيلم عن ليالي الزفاف ,لتبدأ عتاب الحب , تاركة إياه فوق وشاح الغروب ,لترسل رسائلها المكتوبة  بمداد الشوق مع تحركاتِ الجذر و لترتشف َ عبير شهوتها ممزوجا ً بخمر ِ الحياة .

 

3

في ذلك الصباح ضفرت فاتن شعرها الطائش الذي كان يغازل ُ رياح الخريف وعيونها الواسعة تسافر ُ عبر َ البحار لتسّتقر فوق شراع ٍ سماوي ينقلها إلى مدار الطفولة ِ الحالم لتحظى بحنان الأمومة , وتداعب خدك المخملي على سرير السفر , وأنشودة الموت تُقرأ ُ على أرواح ِ اليائسين , وهي تمارس اللعب مع دميتها غير مبالية بقميصها الذي انفكت أزراره ليبدو صدرها الملتهب مفتشاً عن الحرية صارخاً كطفل يبحث عن الماء .

 

خلسة تفكرين , هل تسكنين الحي القريب ؟ أم تسافرين إلى ما وراء الأفق , لم يتثنى لك أخذ القرار , لترتجف يداك عندما سمعت ِ طرق الباب .

وصلتك رسالة لم يرق ْ لك معرفة محتواها , لأن حمامك أصبح جاهزاً وتقت إلى طفق ِ الماء لتداعب َ جسدك الساخن من تنهدات ِ الليل الفائت .

أتيت الآن تُصّلين : أن لا تبتعدي عن حدود المعقول , لتبارككِ السماء وتغفر لك آلهة الجمال خطاياك , وأنت تفتشين عن مذكراتِ يوم لم تُدرك ِ معناه , تدغدغ صدرك حكايات ٍ باتت في ثنايا الموتِ ,لم تجب لنداء الخلودِ في السماء , غارقة أنت في بحور ِ العصيان .

 

4

مع برودة الجسد الذي اشتعل بلهيب ِ الخطيئة ,كانت عيونك تقرأ ُ الدعاء . طلبت موعداً مؤجلا ً , خشيت أن لا يأتي موعدك , وقفت أمام مرّآة إطارها خشبي متشح ٍ بالسواد , تتأملين ذلك المخلوق الذي يشكل نصف المجتمع , أنت مقتنعة بأنكم تغيرون في وضع ِ التوازن البشري .

فتفتحت الرسالة لقراءتها , وأنت تجلسين على كرسي هزاز تقوست قائمتاه ليعطي هذا التأرجح واضعة رجلك اليمنى فوق توأمتها ليلوحَ ذلك العاج المنتظم , ليتهدل ثوبك المعدني القوام والملمس على جانبيك ِ .

 

كانت رسالتك هذه قد وردت من أختك تُطالبك بمصروفها الشهري لتُعيلها في دراستها الجامعية والتي تعودت ِ على تلبية طلبها دون أيّ تردد .

 

5

جال في خاطرك ذكرى أبويك , أنت الآن تمارسين وظيفتك في أحد البنوك الخاصة مكلفة ً بمهام العلاقات العامة , أنت تملكين مقومات هذا العمل , وعلى ذلك تتقاضي راتباً تعيشين به في رغدٍ , خطر في بالك ِ إرسال حوالة مالية لأختك مع إحدى الشركات المختصة بذلك .

وينقض اليوم ليليه آخر , وأنت ِفي هذه الحياة الرتيبة والمنسقة ,هي حياة في واقعها تنتقل في يوم  ِ موعدك إلى يوم ٍ من أيام قبو التابو , كنت ِ تفيضين أنوثة ً.

 

ينتابك شعوراً غريباً حزيناً في قوامهِ هل تستمرُ معك ِ الحياة على هذا أم تحقق لك ما تريدينه ؟ هل تمنحك ما حصلت عليه كثيرات .

تذكرت المرأة التي تعيش في الشقة المقابلة , امرأة دخلت في عامها الخمسين ضعيفة الجسم قاسية الملامح ,دائماً تسترقُ السمع عما يدور عندك , وكثيراً ما كانت تقتربُ من الباب ِ, فهي تدفع كثيراً لتعرف ما يدور في الداخل وخاصة ً عندما تشم ّ رائحة ذلك العطر الخاصة بالرجال , والتي كانت تتكرر خلال الشهر . كانت تقضي معظم وقتها وراء الباب مواربة إياه ُ بزاوية ٍ حادة ليسهل َ عليها اختلاس النظر .

 

6

في البناء ِ الذي يقع مسكنك في طابقه ِ الأرضي  والمؤلف من أربع ِ طبقات , ذو مدخل رخامي لامع ونظيف والذي يتوسط تلك الأبنية , وعلى جانبي الطريق تبدو تلك السلسة من الأشجار ِ مشذبة مخضرة في فصل وعارية في آخر , ليعطي هذا فخامة تلك الأبنية كانت شقتك تأخذ ضلعاً رابعاً في مستطيل , لتكوّن باقي الأضلع سور لحديقة ٍ مهجورة والذي كان يرتفع ُ قليلاً عن مستوى الأرض مما يجعل الشارع يبدو واضحاً للناظر من أحد ِ نوافذ شقتك .

 

هي ذات العقود الخمسة كثيراً ما كانت تثرثر لدى الجارة في الطابق ِ الأول والتي تقع فوق شقتك , كانت دائماً تتكلم بصوت خفيت كأنها جالسة في جمعية ٍ نسائية تترقبُ حولها كي لا يسمع أحد .

 

كانت تلك المرأة  شديدة الارتباك ,شديدة الحركة , تعطي انطباعاً بالقلق ,كانت كذلك تنطوي على أسرار ٍ ,شاردة الذهن ,ممتلئة الجسم ,بيضاء البشرة ’دائماً تستمتع ُ بحديث تلك المرأة ذات العقود الخمسة , تقوم حيناً لتجلس مرة أخرى , وتغّير ُ مكان جلوسها باستمرار ِ , تتمنى أن تجلس َ معك لتسمعَ منك ما تدسه ُ لها تلك المرأة ,حتى يخطر في بالها لو كانت مكانك , فأنت تثيرين فيها إحساسا يُشعرها بنشوة ٍ قلّ ما كانت تحسّ بها

 

7

يشعر ُ من يجلس بجانك ِ برهافة جسمك وفخامته ُوتمرده , ويتمنى أن يذوب َ بك , كنت دائما ً توضبين نفسك بكل تفاصيل هذا الجسم , حتى في طعامك تعودت أن تكون منتقية .

 

في أحد صباحاتك كانت حيرتك غير مبررة , هو صباح  آخر يوم في الأسبوع , كثيراً ما كنت تتحدثين مع نفسك لو أن هذا يوم عطلة , ليكن لديك متسع  من الوقت ِ لكي تأخذين قسطاً أكبر من الراحة ِ وتنسي عذابات متكررة , رنين الهاتف , وجرس خدمة السيد المدير , مجاملة الزبائن و ابتسامات مغصوبة هنا وهناك .

 

تعودت أن تستيقظي في صباح ِ العطلة مبكرة , تنهضين من سريرك ْ قبل شروق الشمس بساعة ٍ , لأنه الوقت الذي يكون فيه الإنسان صافي الذهن والخاطر .

 

خلال أسبوعك لا يتثنى لك التفكير في حياتك , مستقبلها , ماضيها , حتى بأختك ِ , تأخذين حماما ً ساخنا ً , تتناولين قهوتك المفضلة مع الحليب دون إحداث أي ضوضاء في مشيتك ِ , واستعمالك لأواني تحضير القهوة كان يتم ببطء وهدوء ٍ صامت , كان يبدو صباح عطلتك في ساعاته ِ الأولى وكأنه ساعة صلاة , ترفعين ستائر الغرفة عندما تبدأ ُ الشمس بالولود .

 

تعودت أن تتصفحي تلك المجلة الأسبوعية الخاصة بالمجتمع ِ وسيداته , كنت تحرصين على إحضارها معك في نهاية ِ الدوام من كل ِ أسبوع  , تأخذين لذلك ساعة أو أكثر , تأوين بعد ذلك إلى دفتر مذكراتك لتُدوّني الأحداث الهامة , كنت حريصة على تسجيل ِ كيف يبدأ يومك الأول من كل أسبوع , لتصل ِ إلى صراخ مديرك عندما يشاهدك صارخة المعالم والتي تظهرينها بواسطة ِ مواد التجميل الراقية التي اعتدت على اقتنائها , كان قلمك يفيض بالقلق الحاصل , وارتباك عواطفك خلال الأسبوع , حتى محاولته للمسك ِ في كل مرة تأخذين منه ملفاً أو تعطيه . كانت محاولاته خبيثة , كان في كل مرةٍ يدعوك بنية ٍ خبيثة ٍ عندما يبدأ حديثه معك .

 

تخرجين من مكتبه الفخم غاضبة تكاد عينيك تفيضُ بدمع ٍ مثقل بهموم وأحزان . محمل بآهات ٍ عميقة ,لينتابُكِ ذاك الشعور الغريب متى تحصلين على ما حصلت عليه كثيرات من أقرانك, تتذكرين بشكل مقتضب ما كان يحدث من محاورة ٍ فقيرة ٍ بينك وبين أحد هؤلاء الزبائن .

 

توقفت لحظة عند ذلك اليوم الذي بدا هذا الرجل المفعم بالشباب الصارخ الأناقة ليبدُ رجل مصّطنع الطّباع , إلا أنّ داخلك انجذب إليه .

ينتصف النهار لتبدئي بإعداد ما تتناولينه ُ على الغداء وتحضرين ما يُعينك على قضاء موعدك , والذي تودين من أعماق ِ قلبك أن لا يأتي , وكيف لا وقد بدأت تميلين إلى الاستقرار ِ .

 

يأتي موعدك , بثقل ٍ ومن غير تردد , كنت حائرة , انقضى موعدك على غيّرِ الصورة التي تحصل ,كنت شاردة الذهن ,حتى جسمك المليء بالإثارة ِ والشهوة أ ُشّبع برودة وامتلئ َ رفضاً ,

 

8

في الصباح ِ التالي لم تكون ِ بوعيك , مرّ موعدك ببلادة وبَدا موعدك الأخير ,بدا المكان غريباً , نسيت تفاصيل شقتك , كنت تُحضرين للذهاب للعمل دون رغبة , راودتك فكرة عدم الذهاب ة لكن ماذا تفعلين والملل أخذ يتسلل إليك , إصرارك على الذهاب اقتلعك لتصل ِ إلى مكان عملك من دون أن تلحظ ِ مسافة الطريق , تغّير مزاجك فجأة عندما لاح ذلك القوام , إنه هو الرجل المصّطنع أدار ظهره ليُفاجئ بك خلفهُ , توقفت دون حركة , بادرك بالتحية لتُجبِ  دون اهتمام  , تجلسين وراء مكتبك ليجلس َ أمامك بثقة هو واثق من إجابتك , والتي ستكون بمستوى طلبه .

إنه يطلبك لتشاركيه حياته مثل كثيرات من أقرانك اللائي تزوجن ّ , يتعطل ذهنك لحظة لتبد ُ عليك الدهشة , يعتذر عما بدا منه , تعودين لرشدك تُجيبي لم يحصل شيء , يكرر طلبه , الآن تنفرد أساريركُ ليبدُ ذاك الإشراق الممتلئ حيوية وشهوة كأنه هالة مضيئة , سوف تحصلين على ما حلمت به , تبدأ ابتسامتك بالتفتح ِ مع صمت ِ هادئ ْ .

2015-06-14
التعليقات