syria.jpg
مساهمات القراء
قصص قصيرة
رحلة مروان إلى الموت . (3) ... بقلم : محمد نجدة شهيد

أصبح مروان في هذه البقعة من الأرض لا يعرف ماذا يفعل ولا إلى أين يذهب . أختلط عليه كل شيئ ، ضاعت الدروب وغارت النجوم وتشابهت الجبال ، وهبت الريح محملة بالروائح والنذر . فتجمدت روحه ولم يعد يعرف إلى أين يمضي ولا أي دروب يسلك ، فبقي في مكانه صامتاً تعيساً . يصرخ فلا يسمعه أحد . لم يكن هناك من ينقذه . كان ينظر إلى الأعلى حيث لا أثر للسحب وإلى الأسفل حيث نذر الخطر.


جمع أخيراً ما بقي من نفسه ومسح أنفه بصوت مرتفع كعادته أينما كان وبدأ يبحث عن طريق النجاة . ما أطول الدروب إلى بيروت وما أشد وحشتها . أخذ يسير بحواس شاردة واختلطت آثار اقدامه بحوافر الوحوش وبقايا الأغنام . وكان أشد ما يُؤلمه أن دياب تركه بدون أن يأخذ نصيبه منه مثل سعدى . سأل نفسه في حيرة .. أين أذهب ؟ ما أقسى الطرق حين تتشابه . متى تنتهي دورة العذاب ؟! الموت أروح لي . ليته قتلني .
 


أصبح وحيداً في الخلاء الواسع تطل عليه الشمس القاسية تواجهه بعجزه . لم يكف عن السير واللهاث . وبدأت الحيوانات من حوله تصدر اصواتاً غريبة بعد أن اشتمت رائحة لص نذل على وشك السقوط في قبضة العدالة الالهية . وأخذت تقترب منه لتشهد موته كما تموت البعير على طول دروب ممتدة تحمل نذر الموت ويدفن في حفرة مجهولة .
 


بلغت بمروان حالة العجز حد الكآبة . لم يعد يتحمل وطأة الضياع والاهانة ، بكى بصوت عال . وأخذ يفعل كل ما يفعله التائه وهو يبحث في داخله عن مخرج للنجاة . يقلب ثيابه ويصيح فيجاوبه الصدى كالبكاء . يجلس ليتأمل السماء ويتذكر زوجته أحلام التي هربت مع عشيقها وتركت ابنها كريم في بيت أهلها في العمارة بعد ما رأى السائق جهاد معها على فراشه . كان يخور فوقها كالثور وهي تحته تتلوى وتطلب المزيد . كان يُوقظ بداخلها كل أشواق الحرمان والشهقات المكبوتة .
 


كان يُدرك أن كل تجربة أخذت شيئاً من هدوء تفسه واستقرار روحه المعذبة . قال في نفسه لقد تخلت عني مثل عطاف زوجته الأولى . وطاف في ذهنه كلمح البصر حفل زواجه منها في فندق الفورسيزن وكيف امتلات يومها القاعة بالمدعويين والمخزن بالأقوال والاشاعات .. الزواج كان ورطة بعد 3 سنين خطبة .. هل رأى أحدكن أحلام .. كل الذين حضروا الزواج شاهدوا ارتفاع بطنها الغريب و.. و..
 


وضع رأسه الأجوف بين ركبتيه وأخذ يبكي بحرقة واشتد بكائه حتى أصبح مثل عواء الذئاب عندما رأى ذيله قد استطال أكثر مما ينبغي حتى بات يصعب عليه اخفائه في سرواله . كاد أن يهلك نفسه بكاء . من قال أنني لا أتمنى بيتاً أو أسرة كباقي الناس . أخاف من الجوع والتشرد في الأزقة . أهان الله من أهانني . لو أن الزمن يتمهل قليلاً . ابتلع أخيراً مرارته وغص بريقه وكاد يموت في مكانه .
 


ولما جن عليه الليل أخذ يسمع اصواتاً غريبة كقرض الفئران ، وأصوات أنين متواصل ، وضحكاً واهناً كأنه بكاء ، ما كل هذا ؟ كانت هذه الأصوات الخافتة الغريبة تبعث في داخله شعوراً بالوحشة وبالخوف الذي يأكل الروح . كان جسده يرتجف من التوجس والخوف والترقب . وأخذت النسائم تهب عليه باردة وهو يغمض عينيه في خوف وسرعان ما وجد نفسه يسير في حلم قصير لم يكتمل .. رجال لا يعرف كيف جاؤوا وتحلقوا حوله بأعضاء ذكورية منتفخة كالحمير .

 

 

 رأى من بينهم رجل يعرفه حق المعرفة حاول أن يضيع له مستقبله عندما أضاع له اضبارته بعد عودته من بلاد العم سام لكي لا يُعيده إلى عمله السابق كمستخدم في المخزن عندما كان المدير العام أسير الظل في ذلك الوقت بصفة نائب . كان لا يكف عن مداعبه عضوه بيد وفرك شاربه بالأخرى في توتر حتى كاد أن يخلعه . كان يزاحم بقية الرجال ليكون أول من يطيح بمروان كما كان يطيح بأي أمرأة تصلها يده . لم تفلت منه إمرأة ممن أتحن له . كان يتبع نزواته الحيوانية بعد أن ماتت كل الأشياء النبيلة في المخزن .
 


كان مروان يحمل حجابات عديدة كتبها له الشيخ كربوج ضمن رقائق معدنية مغلقة بالقصدير تقي حاملها من لدغ العقارب والثعابين وأهوال الجبال وربما من تقلبات الزمن . ولكنه سرعان ما استيقظ من نومه بعدما أحس فجأة بألم قاسي ممض يخترق أطرافه بعد أن لدغه ثعبان أسود في طرف ذيله الطويل ، ورقد عاجزاً طوال الليل يحاول أن يسترجع في ذهنه تفاصيل الحلم وهو يلعن حظه والثعبان الذي أفسد عليه حلمه العذب .
 


كم عمر الخرف ؟!

ومع أول ضوء للفجر نهض متثاقلاً ليتابع طريقه حيث بدأت الشمس ترسل شعاعها الدافئ . وأخذ يسير يتمايل كالمطعون على غير هدى . نظر حوله وسط الفلاة المهلكة فرأى بعض السيارة يستريحون بالقرب من إحدى الآبار المعطلة يتوسطهم رجل بجسده المكور وقامته القصيرة في أسمال رثه وعيون غائرة وطيور سوداء تتدافع فوقهم بعرض الفضاء . شركاء في البؤس يبدو ذلك واضحاً في هيئتهم الرثة وتصرفاتهم . تأمل مروان وجوههم بعد ما اقترب منهم . رأى بينهم وجها خُيل إليه أنه يعرفه حق المعرفة . اقترب منهم أكثر حتى وقف أمام هذا الرجل قصير القامة وأخذ يتأمله في البدء في شرود .
 


كان أقصر مما ينبغي مثل نبات صحرواي في فمه سن واحدة ، وجهه مليئاً بتجاعيد غريبة ، كم سنة تمر حتى تحفر كل هذه التجاعيد . يلبس ثوباً مصنوعاً من بقايا الأقمشة ويعتمر قبعة مقلوبة كمغني الراب يعلوها ريش مالك الحزين ، وعينه اليسرى محمرة يحيط بها لون بنفسجي ناجم عن لكمة قوية . يحمل طبنجة دق الماني كان يزعم لمن حوله أنها لم تفارق خصره الرشيق منذ أيام دراسته لعلم الكلام في عاصمة المعز .
 


وكان صدره يصدر أحياناً كحة جافة تكاد تقطع انياط قلبه الواهن من الحمرا الطويلة . كان القلب هرماً مليئاً بالعذابات والجروح . كان يتحدث بحماس واضح عن النساء بكلمات مكشوفة وبذيئة ، وكيف يحافظ على وضوئه كل هذا الوقت وهو الذي يعاني بشكل مزمن من مضاعفات التخمة .
 


حدق مروان في وجهه بتمعن . اهتز الذيل بقوة وجحظت العينان . اوشكتا أن تقفزا من وجهه الكئيب ثم هتف في حيرة . يا لله ، يا له من شبه غريب . الوجه نفسه والملامح نفسها ، ولكن أهو أنت أبو لدغة حقاً ؟ والله مبين عليك كبرت وخرفت . وسرعان ما هتف الرجل البالغ القصر هش هش هشمو هبيبي . كان يتلعثم في حديثه منذ أن أخذ يعض لسانه بعد أن زل بمحي حارة الرومان الكبرى الشمالية من الخارطة حتى خشي الجميع أن يقطعه .
 


اندهش مروان لرؤيتة بهذه الحالة شاحباً وهزيلاً كأنه مات وبُعث في التو. وأدهشته أكثر تلك الابتسامة الخبيثة التي لا تزال ترتسم على وجهه المستدير. كان كل واحد يحمل في داخله كرهاً مقيتاً للآخر. كانت تفصل بينهما مسافات طويلة من الحقد والمرارة . كان مروان يقتل كل الحشرات والفئران في بيت الشيطان المعتم لعله يقتل فيها صورة المدير العام الذي يُشبه هذا الرجل البالغ القصر . كان مروان في بيت الشيطان ، الذي أدمن فيه على أحلام اليقظة ومشاهدة الأفلام الاباحية مع شرب الكمون بالليمون ، كراكب النمرالناس تهابه وهو أدرى بما به .
 


حاول مروان أن لا يُظهر الرعب الذي كان في قلبه على وجهه . كان مستسلماً لقدر الطرد المهين الذي يُلاحقه . ومن الغريب ان المدير العام ساهم بشدة في تنفيذ تصاريف هذا القدر حين تخلى عنه ببساطه آسره ولم يقف في وجه الموظفين الذين أهانهم وألقى الرعب في قلوبهم بحماقاته عندما حاصروه في بيت الشيطان وطردوه بطريقه تليق بلص وغد . كانوا يعتبرون صمته موافقة على كل ما يجري في المخزن .
 


أخذه بين ذراعيه ، كأن اصابعه مخالب باردة انغرست في لحمه . وبكى كل واحد منهما على كتف الآخر دون صوت من شدة التاثر. كلاهما كانا على ما أسروا في أنفسهم نادمين . كلاهما كان يكذب على الآخر. بكى مروان ندماً على ضياع عمره مع رجل كان يزين له كل تصرفاته وحماقاته التي لم يجن منها سوى العار والموت . لم يُعلمه سوى كيف يجيد الكراهية . ولم يبذل أي جهد من أجل تحسين وضعه في المخزن ، من أجل أن ينتشله من داخله كي يستنقذ روحه المأسورة للمال الأسود . كان يرقبه طيلة الوقت بكراهية مكبوتة وهو يسير بجثته الضخمة خلف قامته القصيرة كأنه ظل له .

 

 

 كان الترادف بين اسميهما يُظهر ثنائية غير مؤلوفة بين الناس حتى ظنوا بهما الظنون . كان الواحد منهما هو الوجه للآخر . وحتى حين افترقا مرغمين بالشبشب بقي في أعماق كل واحد منهما احساسه بالأسر للآخر. أراد الله سبحانه أن يُصيبهما ببعض ذنوبهما في الحياة الدنيا .
 


وبكى الرجل البالغ القصر، وهو يتحسس طيلة الوقت ذيل مروان بكلتا يديه ليتأكد من شخصيته ، لأنه خذل مروان في آخر لحظة وأن كان يتظاهر أمامه في الفترة الأخيرة بالقلق عليه . كان يُدرك أن مهزلة سعي مروان القاسي لبعث الخوف في أوصال الناس في المخزن سينتهي هكذا وخاصة بعد أن وصلت عربدتة إلى ذروتها ، وأنه تحرك طويلاً في مدى ظلمه وسرقاته ولم يعد أمامه إلا أن يرحل ويختفي في صمت .
 


وكان يشكو طيلة الوقت استئثارمروان بمعظم المسروقات في آخر النهار ، وسعيه الفاضح ليرثه وهو حي في كل شيئ ، ولانتقاداته المتكررة له ، مع بعض أفراد أسرته ، لإدمانه لعب القمار حيث كان يجتمع مع آخرين في حلقة المقامرة في بساتين الصبارة في كفر سوسة حيث ينهض الجميع خاسرين .. ولا يدري أحد أين يذهب المكسب .
 


كانوا يُجلسون الناطور على دكة البستان ليراقب لهم الطريق ويحذرهم عند قدوم دورية الشرطة . فكانوا يُسرعون في الهرب ويتفرقوا في جهات شتى إلا هو فلا يقدر على السعي للهرب بسبب عاقة كرشة فيقع الوحيد في أيدي الشرطة . وكان على زوجته أن تتصل أول كل شهر بمحاسب المخزن لتقول له لا تسلمه الراتب منضل جوعانين طول الشهر . في أول كل شهر يخسر راتبه كله ، وبعدها يبدأ بسلب الأشياء ذات القيمة الموجودة في البيت ثم يعود صفر اليدين . كان يتلف كل ما يملكه وهو يلعب القمار دون احساس بالخطيئة أو الذنب .

كان هذا الرجل القصيرالذي تطاول عليه العمر يقود مجموعة غريبة من الناس وسط الفلاة المهلكة كأنه يستذكر مسيرة أجداده في غابر الزمن . كان يحس بدبيب القدر. أينما سار تلاحقه ديون القمار الثقيلة وطيور غريبة تخبره دوماً أنه يملك بقية عمرلم يعد في حاجة إليه .. إلى متى يمتد هذا العمر بلا فائدة ، إلى متى؟ كانوا مجموعة من الأوباش لا أحد يدري مقصدهم ولا من أين جاؤوا وكيف التقوا كإنهم يسيرون في التيه .
 


أحدهم كان رجل لامع الصلعة يعمل في تهريب الدخان . وآخر من عشاق الآبار المعطلة لا يرتدي من الثياب إلا ما يسترعورته ، وثلاثة آخرين كانوا يسعون للحج فتاهوا ونسوا تبدو على وجوههم الشاحبة ملامح الوهن واضحة ، وراهب كان يقطر الخمر في الدير ويهربه للخارج أطلق لحية طويلة يغلب عليها الشيب ، ويهود يتاجرون في السيوف المهربة ، وصاحبة أكبر ماخور في بيروت ، وممثلون عن قطاع الطرق ، وامرأة تائهه من غجر الشام مكشوفة الوجه ، مهوشة الشعر ، ثيابها صاخبة الألوان ، ووجهها مليئ بالغضون . كانت بصارة ، تقرأ الغيب وتعرف المخبؤ في بطن القدر .



نبوءة مريرة
 


سألها مروان عن طالعه . فقالت وهي تنظر إليه بعينين ثاقبتين : الموت معلق على كتفيك . الموت ظلك جزاءاً ومصيراً . وهو سيجلب لك كل الأحلام العذبة عوضاً عن الكوابيس الدموية . عليك أن تتوقع الامتوقع . لم يدفع لها مروان أجراً ولا صدقة . ولم تبال هي بأن تأخذ أجراً .


سألهم مروان مثلما كان يسأل ببلاهة كل من يقابله عن الطريق أهذا هو الطريق إلى بيروت حقاً ؟ ومضى بعد ذلك وهو يجر ذيله بخيبة ويقلب شفتيه بتعجب يرافقه طائر الحزن .



إنها بيروت ...
 


واخيراً لاحت في الأفق بيوت بيضاء مثل جبال الثلج . هذه أول مشارف بيروت . المدينة التي سمع عنها كثيراً والتي يعرف أنها لن تكون نهاية رحلته المضنية . مدينة غريبة يسكنها الغرباء فيها الجوعى وفيها المتخمون . سارمروان في شوارعها التي بدت ضيقة مرصوفة بالأحجار وفي أسواقها المليئة بالبائعين والشارين واللصوص . وتناهت همهمات الناس ووقع صنوج بائع العرقسوس ونداء باعة الحنة والقرنفل والبهارات وعقود الخرز الملون ، وتوسل الشحاذين وأصوات الفصال مثل أدعية متصلة .
 


كان يقف وحيداً بلا ظل المدير الباهت والقصير يحمل جرح اللعنة الذي لا يندمل ، يثير الرثاء أكثر مما يثير السخرية . كانت الرحلة أشبه بالرحيل داخل مقبرة دفع ثمن كل خطوة فيها بالإهانة والمذلة والخوف . أدرك أنه وصل أخيراً لأرض الغربة الأبدية ليجد الأذرع الخشنة في انتظاره .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

https://www.facebook.com/you.write.syrianews

2015-12-25
التعليقات