**بعد سنين طويلة قضيتها بِحكمِ عملي سابقا ، بين نيويورك وبودابست وأثينا وجنيف وبروكسل ، فضلا عن الجزائر وأبو ظبي ويريفان وأبوجا ، أصبحتُ اشعرُ بصعوبة كبيرة في التكيُّف مع مجتمعي السوري ، هذا على الرغم من أنني متمسِّكٌ ببلادي لآخر العُمر ، ومُتمسِّكٌ حتى بقريتي ، وأفخرُ بأصولي الريفية ومنبتي الكادح (الممتلئ عِزّة وكبرياء) ، وأردِّدُ دوما بيت الشعر المُحبّب جدا على قلبي للصديق الشاعر الراحل الدكتور رضا رجب : نَبتنا من الفقرِ الذي العِزُّ بعضهُ .. إذا اكتحلَ التاريخُ كُنّاهُ مِرودا !!.
*إذا لماذا صعوبة التكيُّف مع المجتمع السوري ؟. الجواب بسيط وهو أنني ألحظُ بأن هذا المجتمع افتقدَ لكل المنظومة الأخلاقية التي كانت تُنظِّم وتحكمُ العلاقات بين أفراد المجتمع !. للأسف أن هذا المجتمع فسّختهُ وتغلغلتْ في صُلبهِ كل أشكال النفاق والكذب والغش والخداع والاحتيال واللصوصية والرشوة والفساد والابتزاز والغدر والكراهية والحسد والنميمة ووو وكل هذه المعاني ... ولكن رغم كل ذلك فما زالتْ هناك شريحة بعيدة عن كل هذه المعاني ولا تعرف إلا الصدق والأمانة والوفاء ، إلا أنها شريحة محدودة ضئيلة وتعيشُ عذابا كبيرا في هذا المجتمع .. فلا هي قادرة أن تفعلَ شيئا ، ولا هي قادرة أن تتخلى عن قيمها ومبادئها ، ولا أن تهجُر وطنها!.
*لم يعُد ينقص السوري سوى أن يأكل لَحمَ السوري الآخر من أجل مائة ليرة سورية ...
بل أحدهم قتلَ الآخر في قريةٍ قريبة من قريتنا لأجل مائة ليرة سورية !. كل صاحب
مهنة أو بائع أو تاجر لا يعرفُ كيف سيأكلُ لحمَ الآخر إن قصَدهُ لشراء حاجةٍ لبيتهِ
... الكل أصبح أشبه بقصة شايلوك .. لا توجد أدنى حدود الأخلاق والضمير والرادع
الديني والإنساني والأخلاقي ، لِردعِ أحدٍ من نهشِ لحمِ الآخر بفرضِ الأسعار
الكاوية لكل شيء والغش والخداع والاحتيال بكل عين وقحة !.
*السؤال : أين هي قيم الإسلام التي نتغنى بها منذ 1400 سنة وحتى اليوم ؟. لماذا لا
نرى أثرا لها في سلوكنا وحياتنا وعلاقاتنا وممارساتنا وتعاملنا وثقافتنا
المجتمعية؟. ألا يعني هذا أن المسلمون (باستثناء نسبةٍ قليلة منهم) هم منافقون غير
مؤمنون بالقيم الإسلامية التي يتغنون بها ويتحدثون عنها في الكلام والخطابات فقط ؟.
أم أن الإسلام أمرَ بالحجاب والنقاب والبوركيني والشادور ووو ، ولم يأمر بالصدق
والأمانة والوفاء والامتناع عن الغش والكذب والاحتيال والحسد والخداع والنميمة وكل
هذه المعاني ؟. أين المسلمون اليوم من قيم الإسلام ومكارم الأخلاق التي جاء رسولهم
لِيُتممها لهم (إنما بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق) !!..
* كانَ عيد الأضحى المبارك ، كما كل مناسبات الأعياد ، فرصة للتجار والباعة لِمصِّ
دماء الناس ورفعِ الأسعار .. فرفعَ بعضهم أسعار الفواكه للضعف ... ولولا ألبسة
(البالة) لما تمكنتْ غالبية الصبايا من شراء (بلوزة) ، فأرى كل يومٍ وأنا في مشوار
الرياضة كيفَ تحتشد الصبايا والأمهات حول ثياب البالَة في منطقة المزّة (شيخ سعد )
لشراء الألبسة لأولادهن ولأنفسهن !..
*في بلاد (المشركين) يحصل تماما عكس ما يحصل في بلاد (المؤمنين) ، فهناك تنخفض
الأسعار ، لاسيما الخضار والفواكه والملبوسات في كل مناسبات الأعياد ، ويكتبون نسبة
التخفيضات التي تُغري للشراء الفقراء قبل الأثرياء ... عندنا (يعني نحن المؤمنون)
يضعون تخفيضات على الفواكه والخضار بعد أن تفوح رائحتها الكريهة النتنة في كل
المكان وتنفر من رائحتها حتى الحيوانات لأنها تصيبها بالمرض !.. بينما عند
(المشركين) تكون التخفيضات على المواد الغذائية وهي بكامل نضارتها وصلاحيتها ومنذُ
بداية عرضِها .. ولا ينتظرون حتى تفوح روائحها النتنة ثم يعرضونها على البشر بأسعار
رخيصة لتسميمهم !!.
**الأمر لا يقتصرُ على كل ما تقدم ، بل هناك الإسراف الكبير الذي يقومُ به بعض
المسلمون الأثرياء خلافا لكل قيم وتعاليم الإسلام .. في الوقت الذي يعيش به مئات
ملايين المسلمين في فقرٍ مُدقع !.
*صحيفة التايمز البريطانية تتحدث يوم 20/9 الجاري أن السائحين القَطريين يدفعون
الكثير في الفنادق في مدينة مانشستر البريطانية ، حيث المتاجر الفخمة ، لحجزِ غُرفٍ
احتياطية لمشترياتهم فقط .. وأن إحدى العائلات ملأت غرفة احتياطية بالكامل من
الأحذية والملابس والمجوهرات والمشتريات من متاجر مانشستر ... وهناك 54 رحلة
أسبوعية إلى مانشستر من الكويت ودبي وأبو ظبي والدوحة وجدة..
وتستعد الخطوط العُمانية لإطلاق رحلة يومية العام المقبل ، بينما سيستخدم "الطيران
الإماراتي" أكبر ناقلاته الجوية العام المقبل أيضا !..
** وأشارت الصحيفة البريطانية إلى أن الأرباح من الزيارات الإماراتية ارتفعت من 9,3
مليون جنيه إسترليني، إلى 18,1 مليون جنيه إسترليني العام الماضي وأن مجموعة "أبو
ظبي" المتحدة للشيخ منصور، ضخّتْ مئات ملايين الجنيهات الإسترلينية إلى مدينة
مانشستر منذ شراء نادي مانشستر سيتي في عام 2008....... فبربِّكم قولوا لي ما هو
هذا الإسلام الذي يؤمن به هؤلاء المسلمون ؟.
*وفوق ذلك نسمع القائد الإيراني السيد خامئني يخبرنا أن (المسلمين حتى آخر لحظة من
هذه الدنيا ، إن أرادوا إحياء الإسلام ، فلا بدّ لهم من إحياء عقيدة الإمامة ) ..
يعني عليهم إقامة أنظمة إسلامية وأئمة يحكمون هذه الأنظمة !. يعني الحلُّ بالنسبة
له هو في الإسلام والإمامة !.
*ليسمح لي السيد خامئني أن أخالفهُ الرأي والقول ، أن المسلمين حتى آخر لحظة من هذه
الدنيا إن أرادوا التقدم خطوة للأمام ومجاراة شعوب العالم الحضارية في الاستقرار
وتحقيق العدالة ، فعليهم الفصل الكامل بين الدين والدولة ، وإتباع نهج الديمقراطية
العَلمانية ، وان يقتصر دور رجال الدين على النشاط الديني فقط في مجتمعاتهم وأن
يبتعدوا بالكامل والمُطلق عن أي نشاط سياسي !. فالسياسة كعملٍ مليءٍ بموبقات الدنيا
، لا تليق بِرجُل الدين الذي يُفترض أنه رجل دعوةٍ لمكارمِ الأخلاق وليس لممارسة
الموبقات !.
**وأقولُ لأصحاب الآيديولوجيات الدينية ودُعاة بناءِ الدول الدينية ، أنتُم مَن
أحييتُم وأيقظتُم كل المشاعر الطائفية والدينية بهذه المنطقة ، وما بعدها ، لتحقيق
شهواتكم في السُلطة والتسلُّط على البلاد باسمِ السياسة وعلى البشر باسمِ الدين !.
وإن كنتُم حقّا غيورين على هذه الشعوب فأوّل ما عليكم أن تفعلوه هو الفصل بين الدين
من جهة وبين الدولة والسياسة من جهة أخرى ، ومن ثمَّ يختارُ واحدكم إما أن يكون
رجُل دين أو رجُل سياسة !. لن تقوم قائمة لهذه الأمة وأنتم تحتكرون سلطة الدين
وسلطة الدولة وتخلطون الأمرين معا !.
**طبعا نحنُ هنا لم نتحدث عن تسييس الإسلام وعن التنظيمات الإسلامية الإرهابية
والمتطرفة والتكفيرية والطائفية والمتعصبة ، وكل ما يحصل باسم الإسلام من عمليات
انتحارية وقتل وذبح وخطف واغتصاب وووو الخ ، فهذه بحثُ آخرٌ ومسألة أخرى كتبنا عنها
كثيرا بالماضي ... ولكن يبقى السؤال : أيُّ إسلامٍ هذا الذي يؤمنُ به هكذا مسلمون
؟. وأين هي قيم الإسلام التي يتغنّى بها المسلمون؟. لماذا لا نرى منها شيئا في
السلوكيات اليومية والممارسات الشخصية للمسلم ؟.
أراهنُ إن كان هناك 1% ينطبق عليهم مفهوم الإسلام إذا ما أخذنا بعين الاعتبار القيم التي حدّثنا عنها الإسلام ّ.. والنواهي التي نهى عنها !. فأيُّ مسلمون هؤلاء المنافقون الذين لا علاقة لهم بدينهم إلا بالكلام والإدعاءات ؟. هل هي فشلُ الإسلام كرسالة أم فشلُ المسلمون في احترام قيمِ دينهم ؟. بكل الأحوال هناك إسلام ولكن بلا مسلمون !.
https://www.facebook.com/you.write.syrianews/?fref=ts
مقال قيم و يعبر عن وعي و ثقافة عالية ...شكرا جزيلا لك