syria.jpg
مساهمات القراء
قصص قصيرة
من مذكرات وطن ... بقلم : أحمد عودة

انه يوم الجمعة... يوم عيد المسلمين و عطلتهم الأسبوعية ففيه كانت تقام الأفراح و تعقد المناسبات و تكثر الرحلات و تنتشر حلقات الدبكات و بعد صلاته تزهو بزوارها المنتزهات و تقام على ضفتيها الموائد و المضافات ... يعود الطلاب إلى ديارهم و الموظفون إلى قراهم و تجتمع الأحبة بدون ميعاد و يصل المسافرون بلا ميقات يودّعون أسبوعهم الطويل و يطوون معه كل ما حمله لهم من أفراح و أتراح.


أما الآن فقد أصبح يوم الجمعة  كابوس مخيف و همُّ كبير نحمله في صدورنا من أسبوعٍ لأسبوع  يتسمر الناس في بيوتهم أمام التلفاز يحصون قتلاهم و يتحسرون على ماضيهم القريب و يحتسبون لمستقبل أطفالهم المجهول ... الطرقات مكفهرة و الاتصالات مقطوعة و الحواجز تقطع أوصال البلاد و تباعد بين جنباته .

 

وحدها الطيور تنتقل يوم جمعة من مكان لمكان تزقزق فرحةً و لا تعد الأيام...

أما في إحدى قرى الشمال فان يوم الجمعة هذا الأسبوع كان مختلفاً حيث نتناوب نحن ثلاثة مجندين على حراسة إحدى المنشآت الرسمية و كان يوم جمعة بالنسبة لنا يوماً إدارياً نغسل ثيابنا و ننظف محرسنا و نتفن بطهي طعامنا و ندون بعض ذكرياتنا .

 

و بدأت قصتنا بعد صلاة الظهر حيث سمعنا من بعيد صوت إطلاق أعيرة نارية و بعده بقليل صوت سيارات الإسعاف و علمنا من بعض الجوار إن الأمور في القرية المجاورة ليست على ما يرام فهناك حالة غليان بين الأهالي بعد أنباء عن سقوط جرحى و الفوضى تعم المكان و بعدها بقليل انتقلت عدوى الفوضى إلى قريتنا بعد الحديث عن نقل ثلاثة جرحى إلى مستوصف القريب منا و أحدهم على ما يبدو أضحى شهيداً بعد أن فارق الحياة .

 

فصعدنا إلى سطح البناء الحكومي لمراقبة الوضع و معرفة الخبر اليقين و إذ بعدد من الدراجات النارية و معهم عناصر ملثمون يهرعون نحونا و يحملون معهم ما خف وزنه و زاد بطشه  وقبل أن يقتربوا منا بدئوا بإطلاق النار في الهواء و يتوعدونا بأقصى العبارات ...

 

ركضنا إلى المحرس و أحضر كل من بندقيته و صندوق من الذخيرة يحوي ألاف الطلقات و لكن الأوامر كانت بالنسبة لنا واضحةً و قطعية بعدم إطلاق النار و مهما كانت الأسباب و بسرعة البرق أقفلنا الباب الخارجي و أحكمنا إغلاق البوابة الداخلية و تأكدنا بأن الجماعة في الخارج لا ينوون لنا الخير بعد سماعنا صوت إطلاق النار يقترب و صوت تحطم زجاج الواجهات و إلقاء زجاجات البنزين كأنهم قرروا حرق البناء بما فيه , و لم نستطع مواجهة هذا العصيان الذي انهمر كالطوفان فحملنا سلاحنا و ذخيرتنا و قفزنا من فوق الجداران و توغلنا بين الحقول و المزارع المحيطة و لا نلوي على شيء سوى أن ننجو بجلدنا و لا نؤذي غيرنا فاختبأنا  في بستان قريب ريثما تهدأ و تعود إلى نصابها الأمور .

 

وكان الوقت قد تجاوز بعد العصر و بدأت الشمس تلملم أشعتها الذهبية و تسعى بكل هيبتها نحو المغيب و ما زلنا نسمع و بشكل متقطع أزيز الرصاص عندما ظهرت لنا من بين الأشجار امرأة ناصحة في عقدها الخامس تحمل في يدها عصا غليظة و سألتنا بلهجة قوية و لكنها لا تخلوا من نبرات الخوف , انتم ماذا تفعلون هنا .. ارتبكنا قليلاً و مضت عدة ثواني قبل أن نستطيع الكلام و كان كل واحد منا ينتظر صديقه أن يبدأ الحديث .. شرحنا لها إننا عناصر مجندون نقوم بحماية مركز البلدية اضطررنا للهرب مع أسلحتنا و ذخيرتنا  بعد الاضطرابات التي تجري في ساحة القرية ريثما تهدأ الأوضاع . و على ما يبدو أن كلامنا قد لامس شغاف قلبها و تغلب حبها العفوي لوطنها  ولجيشه عن أي مشاعر أخرى و عادت و قلّبت نظراتها فينا و قالت هيا اتبعوني ....

 

و عندما وصلنا إلى إحدى الغرف المتطرفة في البستان أخرجت من صدرها مفتاح طويل و فتحت الباب و قالت: ابقوا هنا و لا تغادروا المكان. دخلنا فشاهدنا غرفة كبيرة و في طرفها مولد كهرباء و من الجهة الأخرى خزان كبير للوقود و بعض أكياس السماد متناثرة في المكان.

 

و لم تمض أقل من ساعة حتى عادت و دقت علينا الباب و أحضرت لنا ما تيسر لها من طعام العشاء و كنا نتضور جوعاً بعد أن فاتنا طعام الغداء و ناولتنا أيضاً شمعة و عود ثقاب و قالت إياكم أن تشعلوا المصباح الكهربائي لأنه بعد قليل سيأتي زوجي و الأولاد من الحصاد وهي تخشى علينا و عليهم من عواقب الأمور و طيش الشباب .

و بعد قليل أحضرت لنا أبريق ساخن من الشاي و بعض الوسائد و الأغطية الثقيلة حاولنا أن نشكرها و ندعوا لها لكنها نهرتنا بعنف وقالت: تغطوا جيداً يا أولاد فأنا منذ الآن خالتكم أم منصور  وفي الصباح .. رباح.

 

و كم كانت تلك الليلة طويلة و مخيفة و كان كل منا يفكر في مصيره و هل أحسنا صنعاً بالهرب أم كان من الأفضل أن نبق و ننتظر المجهول ولكن شيء صعب أن تختار بين أمرين لا ثالث لهما أما أن تكون القاتل أو المقتول.

 

و على ما يبدو في النهاية انتصر التعب و البرد على القلق و الخوف و نمنا نوماً عميقاً لم يوقظه إلا أيادي أم منصور الطاهرة و هي تطرق الباب و تحمل في أيديها إبريق حليب و طعام الإفطار و أكدت لنا إن الأمور بخير و علينا الإسراع بالإفطار و تجهيز أنفسنا فلدينا بعد قليل مشوار هام , لم نكن ندري ما كانت تنوي عليه و لم نعرف لماذا سلّمنا أمرنا لهذه السيدة العجوز  ربما لأن كل واحد منا كان يرى فيها صورة أمه و دعائها الحنون.

 

أحضرت عكازها وقالت هيا يا أولاد فطلبنا منها الذهاب أولاً للاطمئنان على حالة المفرزة وفي الطريق و أثناء اقترابنا من سوق الخضرة حاول بعض الشباب الطائشين التعرض لنا و كيل بعض العبارات المسيئة لنا لكن أم منصور رفعت عكازها في وجههم و طلبت منهم الابتعاد و قالت لهم هؤلاء هم جنود الوطن و قد أقسموا للدفاع عنه و تقديم أرواحهم رخيصة في سبيله و قد خاطروا بأنفسهم و رفضوا  إطلاق و لو رصاصة واحدة في وجهكم و يجب علينا لو كنا فعلاً نحب هذا البلد و نتمنى الخير له أن نمسك يد بيد و كتف بكتف في وجه كل من يحاول زرع الفتنة بين أفراده .

 

وبعدها بلحظات مرت من أمامنا جنازة الشهيد ولم نشعر إلا و نحن معهم نحمل نعش الشهيد و ننادي بأعلى صوتنا لا الله إلا الله و الشهيد حبيب الله و أم منصور تبكي ابن جارتها و ترش فوق نعشه الزهور و تقول ايد واحدة .... ايد واحدة ... الشعب و الجيش ايد واحدة ...

 

2011-07-02
التعليقات
الحمامة البيضاء
2011-07-03 11:39:59
صباح الورد
ما بعرف بس وجود الحراسة لازم يكون لحماية المنشأة ويلي بيقرب منها وبده يطالها بسوء لازم الحراسة تحميها ولو اضطرت لاستخدام النار احنا ما بدنا نزيد الفتنة بس ما بدنا نهرب منها وتفكر حالها قوية وتقوى أكثر وأكثر

سوريا
محمد
2011-07-03 07:13:47
تحية الى أم منصور
أنا من الجيش السوري و خدمت في درعا و فعلاً يوجد نساء كثير مثل أم منصور كانت تطبخ الرز و البرغل و توزعه على عناصر الجيش انحني و أقبل أيادي تلك النساء العظيمات وأدعو الجميع لفتح صفحة جديدة من الحب و التسامح .

سوريا
سمر
2011-07-02 15:51:16
هدوا شوي
ان هولاء الشباب هم شباب الوطن و هذا الشهيد هو لكل الوطن و اللعنة على من أشعل هذه الفتنة و يزكيها و هذه الاحداث و مثيلاتها يمكن ان تحدث في أي مكان و علينا أخذ العبر قبل فوات الآوان أرجوكم هدوا شوي

سوريا
ام عبدو
2011-07-02 15:38:32
مندسين
حسب الرأي السائد ان أم منصور هي من الشبيحة و زوجها و أولادها من المندسين وشكرا لصاحب المقال الذي لم ينحاز الا لحب الوطن و سلامته و من غير ثوار و لاشبيحة و لامندسين و سوريا و بس

سوريا
مناف
2011-07-02 15:30:40
سلمت يداك
سلمت يداك على هذه الروح الوطنية لو كل واحد فكر بهذه الطريقة لتجاوزنا هذه المحنة و عادت الأمور الى نصابها و المسألة مسألة وقت و الاصلاحات بدأت مسيرتها المهم أن نبق يد واحدة و روح واحدة.

سوريا