syria.jpg
مساهمات القراء
مقالات
تفكير الأولي والتفكير بالتفكير ... بقلم : نبيل حاجي نائف

الأفكار والتفكير


تنشأ الأحاسيس (أو الأفكار الأولية ) نتيجة تيارات كهربائية عصبية ترسلها المستقبلات الحسية بكافة أشكالها الخارجية والداخلية , وبعد معالجتها في بنيات الدماغ , فهي نتيجة خصائص التيارات والمجالات كهرطيسة العصبية التي تجري في الدماغ . وخصائص الأفكار وتأثيراتها وقواها  ناتجة عن خصائص التيارات الكهربائية والمجالات الكهرطيسية العصبية . وتأثير الأفكار على المادة  وقواها الفيزيائية , هي ناتجة عن هذه الخصائص .

 

 فقوى الفكر التي أدهشت الإنسان هي ناتجة عن استخدام خصائص وقوى الكهربائية الكهرطيسية ذات المنشأ العصبي , وهذه القوى يعتبرها الكثيرون قوى غير مادية , ولكن الآن ونتيجة تطور الفيزياء وباقي العلوم تعتبر المادة والكهرباء والمجالات الكهراطيسية هي ذات أصول واحدة ويمكن أن تتحول إلى بعضها البعض الأخر .

 

إن الكثير من الكائنات الحية تفكر نتيجة أحاسيسها, فهي تعالج المدخلات الحسية وتقوم بالاستجابات المناسب لها , وكذلك تقيمها وتصنفها وتضعها في ذاكرتها , وتتعلم الكثير من الأمور , ولكنها لا تستطيع أن تعالج أفكار تمثل الأحاسيس أو الأشياء , فليس لديها لغة مثلنا يمثل فيها كل شيء , تمكنها من ذلك .

 لقد رأى البعض أن التفكير من دون لغة صعب أو غير ممكن عندما أخذت طريقة تفكيرنا المتطورة  كمثال للتفكير .

 

عندما تنظر إلى الشجرة وتحس تأثيراتها , شكلها , وأوانها , ورائحتها . . الخ  تكون في هذه الحالة تشعر وتفكر بأحاسيسك . وهذا ما تملكه كافة الحيوانات الثديية .

ولكن بعد أن تغادر الشجر وتنتهي الأحاسيس بها , يمكنك أن تستعيد أو تتذكر بشكل إرادي تلك الشجرة وما أحدثت فيك من أحاسيس وتأثيرات , وهذا على الأغلب لا تملكه كافة الكائنات الحية .

 

ما هو الفرق بين هاتين الحالتين , الإحساس والتفكير المباشر به من جهة , وتذكر هذا الإحساس بعد حدوثه من جهة أخرى , أي إعادة أضرام الشعور بالأحاسيس السابقة بشكل إرادي وليس نتيجة التداعي .

وكذلك ما الفرق بين تناول الطعام وما يحدثه من أحاسيس , وتصور أو تذكر أو التفكير في تناول الطعام وما يحدثه من أحاسيس . ممارسة الحب , وتصور أو التفكير في ممارسة الحب .

 

عيش المشكلة أو المصيبة , وتصور أو التفكير في المشكلة أو المصيبة . عيش التفوق والنجاح , وتصور الفوز والنجاح . عيش الآلام والأوجاع , تصور الآلام والأوجاع , وما الفرق بين زيارة بلد والسياحة فيها , وبين مشاهدة ذلك في السينما أو التلفزيون , أو تذكر زيارة سابقة وما جرى فيها . ما الفرق بين سماع لحن أو أغنية , وبين تذكر أو تصور سماع لحن أو أغنية . ما هي خصائص كل من هذين الوضعين , أيهما أشد تأثراً أو أشد قوة ؟ وأيهما أجمل وأحلى ؟

 

هناك فروق بالدرجة والمستوى والطبيعة 

فأنا عندما أقرر الذهاب في رحلة , أمرّ بتصورات لأحاسيس وانفعالات كثيرة قبل حدوث الرحلة , وهذه تؤثر على أحاسيسي عند حدوث الرحلة فعلاً وتتفاعل معها .

هل الترقب والتوقع لأحاسيس معينة ثم حدوثها , هل يزيد أو ينقص من تأثيرها ؟ وهل يغير من تأثيراتها ؟ الظاهر نعم يغير .

 

يمكننا اعتبار التفكير بالأحاسيس التي تستدعى من الذاكرة إرادياً هو شكل أولي من التفكير بالتفكير , و بنشوء اللغة المحكية لدينا تطور التفكير بالأحاسيس ليصبح تفكير بكلمات ترمز للأشياء وغالبية الأمور حياتنا  وكان تأثير الحياة الاجتماعية ونشوء اللغة المكتوبة ونشوء الثقافة وتطورها , هو الذي سمح لقدرتنا على التفكير بالأفكار وجعلها متطورة بهذا الشكل .

 

فالذي سمح لنا أن نفكر في تفكيرنا هو اللغة بالإضافة للحياة الاجتماعية التي أنشأت الثقافة , ولولا اللغة لما كنا نستطيع أن نفكر في تفكيرنا وتميزنا عن باقي الكائنات الحيّة في طريقة وأسلوب تفكيرنا .

 

إذاً أهم العوامل التي سمحت لنا التفكير بالأفكار هو امتلاكنا للغة محكية ومن ثم مكتوبة متطورة .  طبعا بالإضافة لوجود  الذاكرة اللغوية المتطورة - وإمكانية نسخ الأفكار أو تذكرها - والتراسل بين فصي الدماغ - واستعمالنا التغذية العكسية أو جدل الأفكار -  فهم عوامل أساسية أيضاً .

إن الاستدعاء الإرادي لفكرة ( أو إحساس ) لإعادة معالجتها هو الذي يسمح بالتفكير بالأفكار . وأيضاً رصد أفكار الآخرين والتفكير فيه هو بمثابة تفكير بتفكيرهم , وهذا ما أدى إلى تطور وتوسع قدرات ومجالات التفكير بالتفكير .

 

فللغة دور أساسي وهام في نشوء قدرتنا على التفكير بالتفكير , ويمكن اعتبار تصور كيفية حدوثه هو بمثابة تفكير بالتفكير , وأن الجدل الفكري الذاتي هو تفكير بالتفكير . والتفكير بالتفكير هو الذي وسع وعينا وميزنا عن باقي الكائنات الحية المتطور والتي تفكر بطريق جيدة  ولكنها لا تملك لغة متطورة , لذلك لا تستطيع التفكير مثلنا .

 

فنحن البشر نتيجة اللغة والتواصل والعلاقات الاجتماعية والثقافة , أصبحت غالبية التأثيرات علينا تتأثر بما يخزن في ذاكرتنا من أحاسيس وأفكار وعواطف وانفعالات وإيحاءات وتوقع وترقب وآمال , نتيجة الثقافة المتوارثة , وصارت تلك التأثيرات تفوق كثيراً تأثيرات الأحاسيس المباشرة . مع أن في بداية حياتنا تكون الأحاسيس المباشرة هي المؤثرة فقط , وبالتدريج يتم التسجيل القوي والهام في ذاكرتنا نتيجة الحياة الاجتماعية والثقافة .

 

 فالمقصود بالتفكير هو رصد أفكارنا والتفكير فيها أي التفكير بأفكار مرمزة بكلمات ( وفي الأساس التفكير يشبه التذكر ويعتمد عليه , فالتفكير هو شكل من التذكر مع حدوث استجابات فكرية متسلسلة في نفس الوقت ) , ولا يمكننا فعل ذلك إذا لم تمثل هذه الأفكار ببنيات فكرية لغوية ( أي أفكار مرمزة) يجري استدعاؤها من الذاكرة والتفكير فيها ( يمكن العودة لمقال . الدماغ " لدينا " كيف يفكر . ) , فنحن نستطيع رصد أحاسيسنا أثناء حدوثها أو استدعاء صور لها من الذاكرة بعد حدوثها , أي نستطيع التفكير بها أكان أثناء حدوثها , أو عند استدعاء صور أو تسجيلات لها من الذاكرة .

ونحن نستطيع تمثيل أي شيء بكلمة ترمز إليه , فنحن نستطيع بواسطة اللغة تمثيل أي شيء بكلمات حتى العواطف المفاهيم المعقدة مثل العدالة والأخلاق . . . الخ  .

 

ونحن في تواصلنا وتعاملاتنا مع بعضنا نعتمد بشكل أساسي على الكلمات وهي رموز الأفكار أي نتعامل بالأفكار.

فالثقافة والأدب القصص والروايات والشعر, وكافة العلاقات البشرية تستخدم أو تعتمد بشكل أساسي على التفكير بالأفكار .

 

علاقة التفكير بالأفكار بظهور الوعي الراقي المتطور لدينا .

عندما قال ديكارت : " أنا أفكر إذاً أنا موجود " فهو كان يفكر بالتفكير وبشكل متطور يعتمد على ثقافة متطورة , وهذا لا يستطيعه أي كائن حي غير الإنسان الذي يملك ثقافة متطورة , فهذا الإنسان يكون مدرك وواعي لأبعاد الوجود وأبعاد " أناه أو ذاته " .

إن " أنا أفكر " تتضمن التفكير في التفكير أو رصد التفكير , لأنّ الأنا التي هي ناتج تفكير يرصد التفكير وتفكر فيه , أي تفكر بالتفكير . فنحن الوحيدين من بين الكائنات الحية الذين يمكننا أن نفكر في تفكيرنا ونرصده .

 

لذلك مفهوم " الأنا " و إدراك الذات والوعي المميز والواضح لها , غير موجود لدى كافة الكائنات الحية , ربما ينشأ وعي بسيط لذاتها عندما يربها الإنسان فترة طويلة ويتعامل معها باللغة , فيعطيها أوامر ويتلقى منها أوامر , وتشكل رفقة وصداقة معه .

2011-09-22
التعليقات
x
2011-09-23 08:06:40
..
[أهم العوامل التي سمحت لنا التفكير بالأفكار هو امتلاكنا للغة محكية ومن ثم مكتوبة متطورة]: نعم كلام دقيق، لأنه مثلابقراءة كتاب ما يمكن فهم ماتوصل له تفكير الكاتب/عالم ما قديكون سبقنابعقود فنبني عليه وتتطور الحضارة، أماباقي الثدييات مثلا فمابتزبط معن متلناوبضل تفكيرن محدود.. شكراللكاتب الحكيم على المقالة الشيقة، أجدمتعة بقراءة أغلب ماتكتبه..والسلام.

الإمارات
نبيل حاجي نائف
2011-09-23 07:40:02
للاطلع أكثر
تحيات أخت حوا للاطلاع أكثر يمكنك زيارة موقعي "نبيل حاجي نائف" ففيه مواضيع عن التفكير والذاكرة والأحاسيس , وفيه مواضيع علمية وفلسفية.

سوريا
نبيل حاجي نائف
2011-09-23 07:26:30
مشاركة ورد مميز
أهلاً ومرحباً بالأخت الكريمة حوا في الواقع لم أكن أتوقع رد وتعليق بهذا المستوى الفكري وسعة الاطلاع الثقافي والعلمي. إن الرد على مداخلاتك يحتاج لنقاش واسع لا يمكن تحقيقه برد سريع. نعم ما ذكرته صحيح عن مشاركتنا مع باقي الكائنات الحية في أسس التفكير والإحساس والذاكرة , وتظهر الفروق بيننا عندما يزداد حجم دماغنا عنها , وبالنسبة للحيتان وكذلك الفيلة فهم يتفوقوا علينا في وزن الدماغ وبالتالي يمكن أن يكون وعيهم بذاتهم متطور أكثر منا . ولكن يبقى الفرق الهام هو اكتساب اللغة وحياتنا الاجتماعية المتطورة

سوريا
حوا
2011-09-22 18:26:24
متابعة
مفهوم " الأنا " و إدراك الذات .. غير موجود لدى كافة الكائنات -كلامك لايتفق ومبدأ حفظ النوع فالنمر من خلال تمييزه لأناه لايفترس نمر ولما كان علم الانسان قاصر تعدى جهلا واطعم الابقار علف من البقر فظهر جنون البقر وموضة اكل لحوم البشر تطفو فاين هم من وعي الذات...وعي الذات الموجودة المحسوسة ليس هو المميز على المخلوقات لأن ذاتي جزء صغير من كون واسع...فهم سبب وجودي وغايته هي الفكرة الكبيرة التي تنافست عليها العقول على مر الزمن واختلاف تبلورها بين المجتمعات اهم العوامل التي يقارب او يباعد بينها

سوريا
حوا
2011-09-22 17:58:38
متابعة
الوحيدين من الكائنات يمكننا نفكر في تفكيرنا ونرصده -هذا لايعني نذكر مارأينا ونتذكر احساسنا ونتفاعل معه كما في المقالة فالحيوانات تشترك معنا بكله والذي يميز نا التفكر لننتقل من الموجود المحسوس للموجود غير المحسوس فنعلم تطور الهندسة من بناء متقن وتطور كيمياء مصر من مومياءاتها ورقي الاخلاق من تماسك المجتمع والاكثر جدلا وجود الخالق من كونه وقدرته من دقيق صنعه سبحانه...نتفاوت حسب الافادة من الهبة التي بتعطيلها نصبح ادنى الكائنات لسبب أنهم يستخدمون مايملكون باقصى طاقة ونعطل مانملك ولاعذر لنا

سوريا
حوا
2011-09-22 17:42:10
متابعة
-ولكنها لا تملك لغة متطورة , لذلك لا تستطيع التفكير مثلنا -وماتقول في لغة الحيتان التي كشفوها بترددات لاتميزها اذن الانسان وقالوا عنها متطورة معقدة؟ ولغة النملة التي سمعها نبي الله سليمان؟ وماذا عنا نسمع اصوات الحيوانات والطيور لانفهمها ولانتعلمها رغم اننا نعلم انها أقل شأنا من لغتنا ولكن مابالنا لانستطيع تحصيل هذه الادنى؟

سوريا
حوا
2011-09-22 17:38:04
متابعة
ماالفرق بين تناول الطعام وما يحدثه من أحاسيس -الحيوانات تفضل طعام على آخر مما يدل لديها حاسة اللذيذ والالذ أنا عندما أقرر الذهاب في رحلة, أمرّ بتصورات لأحاسيس وانفعالات كثيرة قبل حدوث الرحلة, وهذه تؤثر على أحاسيسي عند حدوث الرحلة فعلاً وتتفاعل معها -تخاف القطة من الماء ويجروها جرا للحمام مما يدل انه نشأ في مخيلتها فكرة تحولت لاحساس الخوف من الماء وفي كل مرة تتفاعل مع هذاالاحساس...ولاننسى ان الحيوان يقرأالاحاسيس من خلال المفرزات الكيماوية فيتصرف بطريقة مختلفة مع احد خائف وآخر لا

سوريا
حوا
2011-09-22 17:30:56
الفكر الفلسفي في ميزان العلم
المقالة فيها أفكار فلسفية تعتمد لاستقراء والتأمل الفكري بعيدا عن تطورات العلم...فرضياتها تفتح باب واسع من التساؤلات -ولكن بعد أن تغادر الشجر وتنتهي الأحاسيس بها , يمكنك أن تستعيد أو تتذكر بشكل إرادي تلك الشجرة وما أحدثت فيك من أحاسيس وتأثيرات, وهذا على الأغلب لا تملكه كافة الكائنات الحية -اذا كيف تفسر وفاء الكلب بعد فراق صاحبه سنين وليس له هذه الملكة؟والهدهد الذي حمل الخبر لسليمان من بعيد وقوله متعجبا"يعبدون الشمس من دون الله"كيف استطاع تذكر مارآه بعد هذه الرحلة الطويلة وتأثره بفعلهم؟

سوريا