syria.jpg
مساهمات القراء
مقالات
لينين وعلم الاقتصاد الماركسي ... بقلم : برابهات باتنك

كانت كل إسهامات لينين النظرية في علم الاقتصاد الماركسي فعالة وذات معنى كتدخلات في الكفاح من اجل تطبيق ثوري صحيح . وهي لم تكن في حد ذاتها مقالات أو أطروحات لتطوير علم الاقتصاد الماركسي والإسهامات بعيدة المدى ، لكنها صنفت ضمن المنظور العام الذي يميز لينين، إي رؤيته للثورة كمشروع مادي وملموس. وهذا يتطلب رسم خارطة طريق بين "الآن" والثورة، وهي اختبار للعلاقة بين البروليتاريا والطبقات الأخرى في المجتمع، وأيضا للقدرة على فهم الثورة على انها العملية التي تفتحت وترعرعت خلال مراحل .


هذه الرؤية للثورة كمشروع مادي وملموس بطنت تنظير لينين للثورة في مجتمع "متخلف" مثل روسيا، وفي مرحلة متأخرة، مكنته من، وعلى أساس فهمه للإمبريالية، ان ينظر عملية ثورية عالمية ( التي ناقشها، اثناء الحرب العالمية الأولى، وظهرت على الاجندة التاريخية )، من خلال توحيد خطّي التطور الثوري الرئيسين في القرن العشرين، الخط الثوري البروليتاري للبلدان المتقدمة وخط التحرر الوطني (او الثورة الديمقراطية) للبلدان المضطهدة و"المتخلفة".

 

ان كتب ماركس وإثارة النظرية ، وهي تقول بأن تطور الرأسمالية خلق الظروف في من اجل الإنهاء الثوري الخاص بواسطة الاشتراكية، قد تصورت هذه الثورة بكل وضوح وهي تحدث في العالم الرأسمالي المتقدم. وفي كتاباتهما حول الاستعمار توقع كل من ماركس وانجلز إمكانية حدوث ثورة ضد الاستعمار في بلدان مثل الهند، ولكنهما لم يستكشفا علاقة مثل هكذا ثورات في محيط الثورة الاشتراكية. وفي المراحل الاخيرة من حياته، وجه ماركس انتباهه نحو روسيا ، واتفق مع فيرا زاسوليتش على ان التحول المباشر كان ممكناً من نظام كميون القرية الروسي الى الاشتراكية، ولكن فقط اذا ما انتصرت الاشتراكية في أوربا لمساعدة هذه العملية .

 

وفي الوقت الذي يؤكد فيه لينين ايضاً على مركزية الثورة الاشتراكية الاوربية فأنه يتصور عملية ثورية عالمية مترابطة بحلقات حيث حتى البلدان الأقل تطوراً رأسمالياً يمكنها التحرك عبر مراحل نحو الأشتراكية، بمساعدة من قبل الثورة الاشتراكية الاوربية، بصرف النظر عن مكان حدوث الثورة اولاً ( قال ، بأن " السلسلة " التي قيدت بها الامبريالية الرأسمالية العالم سوف تكسر عند "حلقتها الأضعف "). اما الطبيعة الطبقية الدقيقة، ومرحلة ومهمات الثورة في كل بلد، وكيفية تقدمها، فلابد من استنباطها وفهمها وتطويرها، حتى بالنسبة للبلدان التي تخضع لنظام رأسمالي متخلف .

 

وبالنسبة لروسيا، آمن لينين بأن كميونات القرية قد انحلت فاتحة الطريق لتطور رأسمالي، وهكذا فان رؤية زاسوليتش حول التحول المباشر من نظام كميون القرية الى الاشتراكية فقدت وثاقة الصلة بالموضوع .

 

لقد كان تطور النظام الرأسمالي يتقدم بسرعة في روسيا، ولهذا السبب برزت الطبقة العاملة كقوة ثورية رئيسة . اما البرجوازية الروسية التي وصلت متأخرة الى المشهد، وهددت من قبل الطبقة العاملة، فقد كانت عاجزة عن السير قدماً بالثورة الديمقراطية، وبخاصة الاطاحة بالنظام القيصري والاستيلاء على الممتلكات الاقطاعية، كما فعل البرجوازيون في فرنسا على سبيل المثال اثناء الثورة الفرنسية . لهذا السبب كان على الطبقة العاملة ان تقوم بعمل البرجوازية ، اي قيادة الثورة الديمقراطية، والانتقال الى الاشتراكية، وان تحشد لنفسها في كل مرحلة قطاعات هامة من الفلاحين (بنية تحالفات الفلاحين تختلف من مرحلة إلى أخرى )

 

كتابات ما قبل الحرب

الكثير من كتابات لينين الاقتصادية في فترة ما قبل الحرب كانت تهدف لترسيخ هذا المفهوم. ولما كان علماء الاقتصاد الوطني يجادلون في ان ضيق السوق المحلي في روسيا، الناتج عن فقر شعبها، جعل التطور الرأسمالي مستحيلاً في ذلك البلد، اما لينين ومع الاخذ في الاعتبار ما قاله بأن روسيا كانت نظاماً رأسمالياً نامياً، الى حد ان نظام كميون القرية دمر فعلاً، قد انشغل في نقاش نظري معهم حيث استخدم برامج ماركس الموسعة لإعادة الانتاج .

 

لقد حدد لينين ثلاث نقاط أساسية : الأولى: أن السوق كان ببساطة ثمرة عملية تقسيم العمل في الاقتصاد. فعندما ننتقل من حال حيث الأسرة الفلاحية تتعاطى فيه الإنتاج الحرفي إلى حال يكون فيه الفلاحون قد تخصصوا في الزراعة وهناك مجموعة مستقلة من المنتجين تتولى الإنتاج الحرفي، فأننا بحكم طبيعة الحال لدينا انبثاق السوق .

 

النقطة الثانية : يمكن ان يكون هناك اختلالات في الانتاج حدثت من خلال فروع مختلفة، البعض ينتج ما يزيد عن الطلب وآخرون ينتجون ما يقل عن الطلب، ولكن مثل هكذا اختلالات والتي تعطي صعوداً للازمة ما هي الا ميزة متأصلة في النظام الرأسمالي . والنظام الذي يتشكل خلال الازمات افضل من كونه جعل من المستحيلات بسببها.

 

النقطة الثالثة : الاختلال بين الانتاج والاستهلاك هو الصفة المميزة للنظام الرأسمالي، والتي تبقي العمال عند مستوى معيشة سحيق. للبرهنة من خلال هذا على ان النظام الذي لا يستطيع ان يتطور بالمرة هو نظام غير شرعي نظراً لان هدف الانتاج في النظام الرأسمالي ليس مراعاة الأستهلاك . وفي الواقع ، الدائرة رقم (1) التي تنتج وسائل الانتاج لأنواع مختلفة، يمكنها ان تنمو وهي تنمو بالفعل على نحو مستقل عن الدائرة رقم         ( 2) التي تنتج وسائل الاستهلاك من خلال مراعاة متطلباته الداخلية الخاصة التي تحافظ على النمو بسبب الاستهلاك العضوي المتصاعد لرأس المال .

 

ان مناقشة لينين لقضية السوق هي بلا شك متأثرة بتوغان بارانوفسكي، الذي قال بأن النظام الرأسمالي قد تميز من خلال "الانتاج في سبيل الانتاج " وآمن بقانون ساي، ولكن ان ترى لينين مجرد صدى لما قاله توغان هو موقف غير صحيح. وهو نفسه لاحظ بأن القوى المحركة " ديناميكيات" النظام الرأسمالي التي وضع لها مخططاً، ومن خلال وضع ارقام لمشاريع اعادة الانتاج، لم يكن القصد منها القبض على "الحقيقة" نظراً لان علماء الاقتصاد الوطنيين قد ناقشوا "استحالة النظام الرأسمالي" وكان هذا كافياً بالنسبة له لكي يظهر "امكانيته " وهذا ما فعله . ( كان ينتج بكلمات اخرى " مثالاً مضاداً " للوطنيين ) . وهذا يأتي بعد الانتقاد الاخير الذي وجهه اوسكار لانغ، بأن مجمل المناقشة الماركسية لقضية السوق عند بداية القرن كانت قد وسمت بحقيقة انها وضعت ارقاماً لبرامج اعادة التوزيع، بدون المطالبة بسلوك استثماري مقبول ظاهرياً، ولذلك لم تحسم شيئاً، وهذا لا ينطبق على لينين الذي كان مهتماً فقط بالرد بالحجة والبرهان على كلام الوطنيين حول استحالة تطور الرأسمالية، وقد نجح في هذا، وفي العملية لفت الانتباه ايضاً، مثل توغان بارنوفسكي، الى حقيقة ان النظام الرأسمالي يمكن ان ينمو بإيجاد اسواق لنفسه من خلال صعود في التركيب العضوي والمتناغم لرأس المال ( وهكذا فأن الدائرة رقم 1 انتجت والى حد كبير من اجل نفسها هي ) وحتى مثل قائمة الاجور، ولهذا السبب الدائرة رقم 2 قد اهملت . ( كان كاليسكي يقول فيما بعد بأن النفقات العسكرية من قبل الدولة يمكن ان تلعب نفس الدور كما في الارتفاع في كميون القرية لتوفير سوق للدائرة رقم 1 )

 

والحقيقة بأن الرأسمالية تتطور في روسيا بالرغم من اصرار الوطنيين على استحالة ذلك كانت قد عرضت من خلال لينين في دراسته الكلاسيكية " تطور الرأسمالية في روسيا " . وكانت تضمينات هذا فيما يتعلق بالثورة الروسية الوشيكة قد وضعت بعبارات لا لبس فيها في تكتيلية للثورة الاجتماعية في الثورة الديمقراطية حيث قال "ان البرجوازية عاجزة عن النهوض بالثورة الديمقراطية حتى انجاحها ، بينما طبقة الفلاحين قادرة على فعل ذلك " ( تحت قيادة البرولتاريا ). ولهذا السبب " على البرولتاريا ان تقود الثورة الديمقراطية نحو الكمال، متحالفة مع جموع الفلاحين من اجل تحطيم مقاومة حكومة الفرد المطلقة بالقوة وشل عدم استقرار البرجوازية . وعلى البرولتاريا ان تبلغ وتنجز الثورة الاشتراكية، متحالفة مع الجموع من السكان انصاف البرولتاريا، الى حد تحطيم مقاومة البرجوازية بالقوة وشل عدم استقرار الفلاحين والبرجوازية الصغيرة " .

 

وكان الجزء المركزي بالنسبة لهذا الفهم او التصور التمييز بين الطبقات التي لها علاقة بالفلاحة في عملية التغيير الزراعي. ففي مجتمعات باشرت مؤخرا تطوراً رأسمالياً، فأن البرجوازية بالرغم من كونها عاجزة عن تحطيم الممتلكات العقارية، كما يتطلب اكمال الثورة الديمقراطية، يمكن ان تدخل في حلف مع لوردات الاقطاع السابقين لتطوير ما اسماه لينين " الرأسمالية نصف الاقطاعية " حيث خير نموذج لها " رأسمالية الطبقة الارستقراطية الاقطاعية - اليونكرز الالمانية ) وكان هذا الحال متفاوت ومتباين مع " الرأسمالية الفلاحية " ، التي مثلت تطورا رأسمالياً قاعدته اكثر اتساعاً، واكثر قوة ونشاطاً ، واقل قمعاً وظلماً، والذي سينشأ مع تحطيم الممتلكات الاقطاعية .

 

ان عجز البرجوازية عن اتباع طريق " الرأسمالية الفلاحية " اظهر بأن الطموحات الديمقراطية للفلاحين يمكن الوفاء بها وتحقيقها فقط تحت قيادة البروليتاريا.

 

وكان لينين في ذلك الوقت، قد اعطى الاسباب والمبررات من اجل "تأميم الارض" كتتمة لتفتيت الملكية الاقطاعية والتي ستخلص المنتجين من عبء " ايجار الارض المطلق " ومن ثم تشجيع التراكم، ولم يحدث قط إن غير لينين موقفه إلا في وقت الثورة البلشفية حيث صار يقول بأن تفتيت الممتلكات الاقطاعية سوف يقود الى توزيع الارض على الفلاحين، هو الامر الذي طالبت به الثورات الاجتماعية اليسارية ، وريثة العرف الوطني .

 

وما شغل لينين الى حد كبير، قضية التمييز الطبقي ضمن الفلاحين، وهي ايضاً مركزية بالنسبة لمفهوم الثورة ذات المرحلتين نظراَ لان وثاقة الصلة بالنسبة لهذا المفهوم قد ذهبت بعيداً الى ما هو ابعد من روسيا ، كما انه يبطن تحليل الكومنترن للمجتمعات المتخلفة. وفي المسودة الاولية لأطروحته للمؤتمر الثاني للكومنتيرن ، عرض لينين معياراً مستنداً على تأجير العمل للتمييز بين الطبقات الفلاحية المختلفة، والذي كان لتشكيل الاساس لكل التحليلات اللاحقة للقضية، بما في ذلك التحليل المشهور الذي وضعه ماو تسي تونغ .

 

الامبريالية والحرب

لقد رأى لينين الحرب العالمية الاولى كنقطة تحول حاسمة بالنسبة للنظام الرأسمالي، بشرت بقدوم الثورة العالمية على الاجندة التاريخية ومن الطبيعي ان تؤدي ملاحظة ماركس الشهيرة بأنه في مرحلة معينة من تطور اسلوب الانتاج، تصبح علاقات الملكية التي تميزها قيوداً على التطور الابعد لقوى الانتاج، الى رفع السؤال : كيف نعرف متى وصلت مرحلة "القيود" هذه ؟ او اكثر تعميماًَ متى يمكن ان يقال بأن اسلوب الانتاج قد اصبح مهملاً ومن طراز قديم تاريخياً ؟ لقد جادل العرف " التعديلي " في الديمقراطية الاجتماعية الالمانية بأن هذا الاهمال سيظهر نفسه كنزعة باتجاه "انحلال" النظام ونظراً لعدم وجود اية علامات او دلائل على مثل هكذا انحلال على الطبقة العاملة ان تروض نفسها على حقيقة ان النظام الرأسمالي سيتواصل، وان عليها ان تكافح فقط لتحسين نصيبها الاقتصادي ضمن النظام، وان الماركسية استناداً الى ذلك يجب "مراجعتها" .

 

وقد جادل العرف الثوري في المانيا الذي جسدته روزا لوكسمبرغ معارضاً هذا وقال بأن النظام قد توجه حتماً بإتجاه " الانحلال" ولكن هذا العرف قبل في العملية مشكل التعديليين بأن برهان اهمال النظام وزواله يكمن في نزعته وميله نحو"الانحلال" .

 

لقد قطع لينين علاقته مع هذا المشكل ورأى الحرب كتجسيد للطبيعة " المحتضرة" للنظام الرأسمالي، قد اعطت للعمال خياراً صارماً ومتصلباً: عليهم اما ان يقتلوا اندادهم العمال عبر الخنادق او ان يحولوا بنادقهم ضد مستغليهم الرأسماليين ( الذي منه شعار البولشفي " حولوا الحرب الامبريالية الى حرب اهلية ") وقد طور لينين نظريته حول الامبريالية ليوضح ويفسر الحرب وليعرف الطبيعة المحتضرة للنظام الرأسمالي والذي كانت الحرب تعبيراً عنه .

 

لقد اسئ كثيراً فهم نظرية لينين حول الامبريالية . وسوء الفهم الأكثر شيوعاً كان يهدف الى ان ينسب الى لينين موقف المؤيد لنظرية الاستهلاك المنخفض والرؤية التي تقول بأن الامبريالية هي اداة لمقاومة وابطال هذه النزعة . وانه وبسبب هذا التفسير جادل العديد من الكتاب فيما بعد بأن ادارة الطلب الكينزية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية جعلت من نظرية لينين عن الامبريالية مهملة ومن طراز قديم . لكن لينين، بالرغم من انه مدين فكرياً لهوبسون، لم يكن مثل الثاني. والواقع ان نظرية لينين ليست نظرية وظيفية " اوعميلة " للامبريالية مطلقاً، يعني ان الامبريالية لم تفهم من قبله على انها توفر ترياقاً لأي نزعة خاصة من الرأسمالية .

 

وبالنسبة للينين، الامبريالية هي رأسمالية احتكارية. وعملية تمركز رأس المال تقود الى نشوء الاحتكارات في مجالات الانتاج والتمويل، والتي بدورها تعزز كل منها الأخرى الى درجة ان مجموعة مالية صغيرة ، متربعة فوق مجالات التمويل والصناعة تقرر التصرف بمقادير ضخمة من "رأس المال المالي"، والمجموعات الصغيرة "القلة" هذه هي قائمة على أساس القومية وتكاملت واتحدت مع حكوماتها القومية، خالقة "اتحاداً شخصياً بين أولئك الذين يوجهون الصناعة والتمويل والدولة في كل من البلدان الرأسمالية المتقدمة، والمنافسة التي توجد دائماً بين رؤوس الأموال، تأخذ الآن شكل المنافسات من أجل اكتساب "الحقل الاقتصادي" بين هذه الأقليات المالية القوية، كل واحدة منها مدعومة من قبل دولتها القومية. إن اكتساب "الحقل الاقتصادي" أو "المنطقة الاقتصادية" ليس فقط بسبب فائدتها كأسواق أو مصادر للمواد الخام أو مجالات للاستثمار المالي، إنه بسبب فائدتها الكامنة التي يجب أن يبقى المنافسون خارجها وبعيداً عنها. وعندما نجح البحث عن "المنطقة الاقتصادية" في تقسيم كل العالم، فإن إعادة التقسيم فقط تبقى ممكنة، والتي يمكن تأثرها من خلال الحروب. إن عصر الإمبريالية، والتي هي الرأسمالية الاحتكارية، متميز من خلال الحروب.

 

لقد واجه مفهوم لينين حول رأس المال المالي انتقادات شتى: منها أنه قائم على أساس الخلط بين "المخزون أو الموجودات" و "التدفقات المالية"، وأنه يتذبذب ما بين نظرية هوبسون حول "التمويل العالي" (الصفة المميزة لبريطانيا حيث المصالح المالية والصناعية كانت متباينة نوعاً ما)، ونظرية هايلفيردنغ حول "رأس المال المالي" أو "رأس المال المسيطر عليه من قبل البنوك" والموظف في الصناعة (الصفة المميزة لألمانيا حيث المصالح الصناعية والمالية موحدة). هذه الانتقادات أخفقت في فهم النقطة الأساسية في نظرية لينين. واختلاف "الموجودات" و "التدفقات" يلبس الأهمية فقط ضمن منظور الاستهلاك المتدني، حيث صادرات رأس المال بمعنى فائض تصدير تم تمويله من خلال تمديد مدة القرض يمكن أن تكون مصدر رفد وتعزيز الطلب الكلي. باختصار، موضوع "التدفقات" من وجهة نظر الطلب الكلي، فإن صادرات رأس المال كانعكاس لخيار للسندات أو الأوراق التجارية، ودون فائض تصدير مصاحب، لا تؤثر على الطلب الكلي، ومتى ما فصلنا لينين عن الاستهلاك المتدني، فإن هذا الانتقاد القائل بأنه لا يميز بين الموجودات والتدفقات يصبح لا أهمية له. وعلاوة على ذلك، بما أن لينين سعى لوصف مرحلة الرأسمالية بكاملها، شاملاً خصوصيات عدد من البلدان، فإن استخدامه لبعض المفاهيم المرنة من النادر أن تستدعي الانتقاد.

 

إن نظريته، وبالرغم من بساطتها المفرطة فيما يتعلق بمفهومها الاقتصادي، وأنها في الغالب رائعة جداً وفوق النقد ضمن سياقها "سيتم الحديث أكثر عنها لاحقاً"، كانت غنية في احتوائها على مجموعة متنوعة من علاقات الهيمنة التي تستتبع الإمبريالية. إن محاولة تقسيم عالم مقسم بالفعل أخذت أشكالاً معقدة (تاركين الحرب جانباً): المستعمرات، أنصاف المستعمرات، تقويض سيادة بلدان مستقلة اسمياً، واكتساب السيطرة حتى على القوى الاستعمارية مثل البرتغال. لقد كشفت نظرية لينين عالم العلاقات الدولية أمام التحليل الماركسي.

 

لقد حاول لينين في عام 1908 أن يفسر التعديلية في حركة الطبقة العاملة الأوروبية، من خلال الإيحاء بأن تدفق صغار المنتجين، المستلبين من قبل المنافسة الرأسمالية، نحو صفوف البروليتاريا، جلب معه أيديولوجيا غريبة شكلت التربة للتعديلية. ولكن في الإمبريالية، مع الأخذ تلميحاً عن بعد ملاحظات إنجلز، لقد فسر التعديلية ناظراً إليها على أنها جزء من الطبقة العاملة، وبشكل خاص قيادتها النقابية، التي حصلت على رشوة من "الأرباح الضخمة" التي حصل عليها الاحتكار المتحد. وهنا يجب أن نميز موقف لينين عن الجدالات الجانبية التأخرة المستندة على "تبادل غير متكافئ"، والتي سارت أبعد من ذلك فيما ادعته من أن بروليتاريا البلد المتقدم هي جزء من قطاع الاستغلال: إنه لم يقدم فقط على حصر المستفيدين الملحوظين من الاستغلال الإمبريالي، ولكنه ربط الظاهرة بالاحتكار. إن نظريات التبادل غير المتكافئ التي لا تستشهد بالاحتكار هي ضعيفة وغير مدعمة بالحقائق والمبررات، وهي تفتقر إلى الصحة والصلاحية إذا لم تكن المدينة الكبيرة وخارجها البعيد عن المركز متخصصين في نشاطات خاصة، ولكنها لا تستطيع تفسير مثل هكذا تخصص في غياب الاحتكار. إن التأكيد اللينيني على الاحتكار هو مدخل أكثر إثماراً للقضية، حتى إذا سعت دائرة المستفيدين أن تتوسع إلى ما بعد القطاع الضيق.

 

في الإمبريالية، انتقد لينين استشهاد كارل كاوتسكي بإمكانية الاستغلال المشترك للعالم من خلال اتفاقية سلمية من قبل رأس المال المالي العالمي المتحد كـ "إمبريالية متطرفة" أو "فوق الإمبريالية" وكانت حجته أن أي تقسيم متفق عليه للعالم مثل هذا بين رؤوس المال المالية المختلفة، على افتراض حصوله، سيعكس قواها النسبية كل الوقت، ولكن تطوراً متفاوتاً وغير مستوٍ، ومستوطن في النظام الرأسمالي، سيحرف ويغير بالضرورة هذه القوى النسبية، ويكون باعثاً على الصراعات التي ستتفجر حروباً. إن "الإمبريالية المتطرفة" تستطيع أن تكون فقط الفصل الإضافي لهدنة بين الحروب. وقد جادل الكثيرون على أساس تجربة ما بعد الحرب بأن المفهوم الكاوتسكي قد تحقق بدلاً من المفهوم اللينيني، وتدنت حدة المنافسات بين القوى الإمبريالية في ظل السلام في أمريكا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولكن لا بد من ملاحظة نقطتين هنا: الأولى: لدينا مؤخراً عدم وجود وحدة بين رؤوس الأموال المالية ذات الأساس القومي والمدعومة من قبل الدولة القومية، كما تصور كاوتسكي، ولكن رأسمال مالي عالمي جديد، ومن ثم إمبريالية جديدة، والتي هي إنتاج التمركز المعزز لرأس المال وإلغاء القيود على تدفقات رأس المال العابرة للحدود، أي بمعنى عملية عولمة التمويل. وما لدينا في الوقت الحاضروباختصار ظاهرة جديدة تسمو فوق الأزمة الكاوتسكية - اللينينية بمجملها. النقطة الثانية: نشوء رأس المال المالي العالمي، في الوقت الذي يتم فيه كبح الحروب بين القوى الإمبريالية لم يمنع الحروب. إن أشكال الحروب قد تغيرت ولكن الحروب تبقى في كل وحشيتها وقسوتها. والحالة الراهنة تختلف عن تلك الحالة أيام لينين، ولكن آثاره الأدبية والفكرية تبقى المعيار والمرجع لكل المقارنات المطروحة للتحليل.

 

كتابات ما بعد الثورة

لقد بقيت كتابات لينين ما بعد الثورة الغزيرة والوافرة الإنتاج هامة بامتياز وتتطلب معالجة خاصة أكثر شمولاً واستقصاء. فعندما انتهت الحرب الأهلية، وفسحت فترة "شيوعية الحرب" الطريق "للسياسة الاقتصادية الجديدة"، والتي كشفت عن إمكانية نزعة رأسمالية كان من الواجب أن تبقى مكبوحة ومسيطراً عليها من خلال الدولة البروليتارية التي احتفظت بالسيطرة على المواقع العالية والآمرة في الاقتصاد. هذا التوكيد على الدولة المركزية كمتراس ضد إعادة وترميم النظام الرأسمالي قد نظر إليه من قبل الكثيرين كاحتواء لبذور الإنحلال اللاحق للنظام. ووفقاً لذلك نظر إلى لينين وكأنه المنشئ الواعي للنظام المركزي الذي أكمل في عهد ستالين. ولكن هذا يعتبر قراءة خاطئة للينين الذي لم تتخل عنه أبداً الرؤية الأساسية والقائلة بحرية الإرادة الخاصة بالاشتراكية، حتى عندما كان جهاز الدولة المركزية قد بني لحماية الاتحاد السوفياتي المحاصر بعد أن تلاشت احتمالات الثورة الألمانية وكان لينين قد بدأ يتطلع باتجاه الشرق إلى الصين والهند.

 

هذه الرؤية القائلة بحرية الإرادة أوجزت في كتاب "الدولة والثورة" الذي كتب في آب 1917، والتي تصورت الدولة البروليتارية كطريق مدمر ومهلك منذ اليوم الفعلي لتشكيلها، كان لينين قد كررها في أكتوبر 1917 في ملاحظته: "نستطيع وعلى الفور أن نجعل جهاز دولة يتألف من 10 إن لم يكن 20 مليون إنسان يبدأ العمل"، وحتى في اللحظات الحرجة، وبعد أن أجبرته الظروف في التوجه نحو جهاز دولة مركزي، فإن تدخلاته، مثل مقاومة عسكرة النقابات العمالية، انطلقت من هذه الرؤية القائلة بحرية الإرادة. وحتى بعد أن أصبحت ديمقراطية السوفيات لم يعد لها وجود، كان لينين قلقاً على الحزب على الأقل أن لا يصبح قوة بيروقراطية مركزية، لذلك كان "صراعه الأخير" من أجل اتخاذ خطوات تمنع البيروقراطية في الحزب. لقد رأى وبوضوح وبصيرة شديدتين أن السعي وراء "المركزية الديمقراطية" (المبدأ التنظيمي للحزب اللينيني) في مجتمع نشأ من الأوتوقراطية الإقطاعية يمكن بسهولة أن يتردى إلى مركزية بيروقراطية. إن وصف لينين كرمز لمركزية ممجدة مقابل الوعد المطلق بالاشتراكية هو وصف زائف ومضلل.

 

ملاحظة: الكاتب من الحزب الشيوعي الهندي - الماركسي

تعريب هاني مشتاق

عن مجلة البوليتيكال أفيرز

المجلة النظرية للحزب الشيوعي

في الولايات المتحدة الأمريكية

2011-10-16
التعليقات