syria.jpg
مساهمات القراء
مقالات
الثورات العربية... ودور المؤسسات والدساتير والأحزاب... بقلم : محمد صوان

بدأت الدول العربية التي استنشقت هواء الربيع العربي باستدعاء أكثر المتخصصين درايةً في القوانين الدستورية وعلوم السياسة والتنمية البشرية لصياغة دساتير جديدة، رغم أن الطريق إلى القاعدة الدستورية مليء بالمتاعب في بعض الدول التي لم تعرف قط في حياتها رياحاً دستورية.


وظن البعض كما هو الشأن في مصر أنه بسبب التجربة التاريخية والسياسية وشهرة بعض المتخصصين في القوانين الدستورية، فإنه تكفي أشهر قلائل لوضع دستور ديمقراطي حداثي يأتي بمجموعة قواعد أساسية لترسم أساسات النظام السياسي فيها، وتضع الضمانات الكفيلة لحقوق الأفراد والجماعات.

 

لكن الدولة في منطقتنا العربية، وعلى نحو خاص في الدول التي عرفت سلطة مطلقة وفردية في أعلى هرم الدولة، لم يتم الحسم في (هويتها)، ولهذا بمجرد أن تم التطرق إليها ذهبت بعض الأحزاب السلفية لتدعو إلى انتخابات تشريعية قبل التطرق إلى الجمعية التأسيسية التي ستعنى بصياغة الدستور، وتشكل المؤسسات والأحزاب.

 

ويجمع الكل على أن الفترة الحالية هي فترة حاسمة في مصير الشعوب والأوطان العربية، وينبغي على الفاعلين في المجتمع التغاضي عن النواحي (الهوياتية) ذات التكلفة السياسية والاجتماعية والثقافية الباهظة، والتطرق إلى المسائل الجوهرية التي في غيابها انطلقت الانتفاضات العربية أصلاً، فالدساتير والمؤسسات ستنجز وتشاد وتكتب من (ماء الذهب) ولن تبقى كما كانت صورية وشكلية بل ستتعزز موادها وتتعاظم قوة المراقبة والمحاسبة فيها، وستتمسك بالقيم والمبادئ والثوابت المتأصلة في التاريخ والثقافة والحضارة لكل مجتمع وأمة.

 

ولهذا يستحسن للعديد من التيارات والأطياف السياسية اليوم التفكير معاً فيما يمكن أن يساهم في التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد وفي الاستثمار الأمثل للمؤهلات والموارد الذاتية لكل فرد، واستنهاض همم مختلف الطبقات والأطياف الوطنية والقومية.

 

إن تطلعات الشعوب الآن ليس في هوية الدولة التي لا يمكن أن يختلف اثنان على مقوماتها الحضارية والتاريخية والمدنية، ولكن تطلعاتها اليوم وغداً هي في إيجاد فرص للتنمية والعمل. وتحقيق ذلك يكون بتعبيد الطرق وإيجاد الروافع بحكمة واقتدار، كتحديث ودمقرطة هياكل ومؤسسات الدولة وكيفية توزيع التشريعات الداخلية الجديدة للسلطات سواء منها المركزية أم اللامركزية وفق مبدأ فصل السلطات، وتكريس التعددية، وممارسة الديمقراطية بما يكفل تحقيق تنمية وطنية ومناطقية وجبهوية متضامنة ومتوازنة ومندمجة تضع حداً للفوارق الجغرافية، وتطوير التنمية المستدامة وطنياً وقومياً، تؤهل النخب الجديرة لتدبير الشأن الوطني العام، وتمكين الأحزاب السياسية من التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، بعيداً عن المزايدات الأيديولوجية وإدخال الدين في متاهات السياسة.

 

وعند بناء المؤسسات الجديدة يكون الأمل معقوداً على الأحزاب الجماهيرية والديمقراطية بعد أن كانت مكبوحة عن السياسات أحقاباً، كما هو الحال في أكثر من بلد عربي. والأحزاب الجماهيرية والديمقراطية هي تلك الكيانات التي تعمل في شفافية ونزاهة، ويقوم بناؤها الداخلي على مبادئ الديمقراطية لتكون حاضرة في قيمها وسلوكها اليومي، ويتناغم نشاطها مع الدستور ومع آليات النقد الجاد بوساطة أعضاء وكوادر وقيادة حزبية واعية ومنتخبة، وتستسيغ التداول السلمي وتناوب السلطة في ظل المؤسسات والهيئات الحزبية بمقتضى المدة الزمنية المسقوفة لعضوية القائد في أي هيئة قيادية بعيداً عن التأبيد والتوريث، وبعيداً عن الكليانية والشمولية والشللية. ومهمة الحزب الجماهيري هي تمثيل الناس وحمل مطالبهم المجتمعية إلى المستوى السياسي، للدفاع عنها وبلورة حلول جذرية في إطار شرعية التنافس السلمي بين جميع الأحزاب. فإذا وصل أحدها إلى مقاعد الحكم، وبقيت الأخرى مرجوة لأمر صناديق الاقتراع إما أن يكافئها الناخبون أو يبقوها في صف المعارضة.

 

وفي المجتمعات الديمقراطية تكون عضوية الحزب هي مصدر الحقوق ومناط الواجبات، فالعضوية هي التي تجعل الإنسان الفرد يشارك بنفسه في الشأن العام ممارسةً ونقداً وتمثيلاً، صحيح أن الأحزاب في الدول الاستبدادية صورية ودون جدوى، ولكن بعد زوال أنظمة الاستبداد، تكون الأحزاب هي الدواء الأول للمجتمع. وبما أن النساء والشباب استطاعوا الخروج إلى الساحات العامة والشوارع، وواجهوا أجهزة القمع والطغيان، فباستطاعتهم أن يقتحموا مقرات الأحزاب السياسية، ويطلبوا بطاقة العضوية ويشاركوا في صياغة برامجها وأنظمتها الداخلية، بل وأن يترشحوا إلى هيئاتها القيادية.

 

 وهذه هي الطريقة المثلى لجعل الديمقراطية الحقيقية تأخذ مسارها. وعند الوصول إلى هذه المرحلة، ينبغي للفاعلين في العملية السياسية والثقافية تجذير بناء الوحدة الوطنية، وحسن الظن بالمؤسسات، وطي صفحة الماضي، لأن غرس الشك والانقسام المستمر في أذهان الناس يورث الفرقة والتشظي والسخط، ويخلق علامات التوتر، ويجعل الناس لا يثقون بممثليهم. وينمي بالتالي التكاسل والسلبية، وما يمكن وصفه بانعدام الأمل. وقد سمعنا أن أحزاباً تقول إنها إذا لم تحصل على المرتبة الأولى في الانتخابات، فهذه الانتخابات مزورة، وإذا لم تسند إليها الوزارة الأولى فإن النظام لم يتغير! وهذه أمور تخالف أبسط قواعد الديمقراطية، وتتنافى مع المعقول والمنطق في أدبيات العلوم السياسية. فإذا ذهب الأمل، وحل الترهيب، فإن الناس سيعتزلون السياسة وسينصرفون عن المشاركة، وسيصبحون طعمة لكل آكل، سواء في ذلك حصلوا على غايتهم من التغيير أم لم يحصلوا.. وسواء كان ذلك الآكل خارجياً أم داخلياً!

 

إذا هبت رياح التغيير في مجتمع من المجتمعات، فعلى الجميع الانخراط في توجيهها صوب سارية الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والدولة المدنية، ولكن بعقلية جديدة وبأفكار ديمقراطية جريئة قادرة على صيانة الوحدة الوطنية، وبالتالي المحافظة على القشرة الحامية لمعنى الدولة ومؤسساتها. إذ لا يمكن الانطلاق من العدم، إن بناء وحدة الأمة، ووحدة الوطن والشعب مبدأ سام في بناء الدولة والمؤسسات.

 

وآنذاك ستتعزز روح المبادرة وستتحرر الطاقات الخلاقة لدى المواطنين والمواطنات ولدى الأحزاب والناخبين، وآنذاك سيتطور المناخ الديمقراطي وسيتوسع نطاق الممارسة التشاركية بما يقوي من هيبة وهوية الوطن والدولة، ويمأسس للحكم الرشيد الناجح، ويغذي روح المسؤولية ويعمم إلزامية تقديم الحساب للناخبين، وآنذاك سيكون للدستور والمؤسسات معنى، وللربيع العربي نسيم خالد.

محمد صوان

 

2011-10-18
التعليقات