syria.jpg
مساهمات القراء
مقالات
التنوع والحوار ... بقلم : أمين حافظ

يؤكد تسارعُ الأحداث، وازديادُ حدة التوتر في الأزمة الراهنة في سورية، وتعددُ أشكال التدخل الخارجي فيها طرداً مع تزايد الضغوط الغربية


وجودَ مخطط غربي جديد لإعادة الهيمنة والاستقطاب ووضع خريطة العالم العربي على طاولة الجيوسياسة الأمريكية، لتفكيكه وإعادة رسم سايكس - بيكو جديد يلبي مصالح الإمبريالية والصهيونية العالمية....

 

 مما يوجب على السوريين خصوصاً ضرورة رسم استراتيجية وطنية جديدة تلبي تنوع المصالح وتعيد إلى الصدارة مفاهيم ومعايير حديثة عن الحرية والديمقراطية والانتماء، وما قد ينتج عنها عبر الحوار لتعزيز الوحدة الوطنية وترميم ما تشوه في صورة المواطنة والهوية والمساواة وحرية التعبير وحق التنظيم السياسي المدني، وإعادة النظر بمفهوم وشكل الدولة الوطنية والوحدة الوطنية الداخلية القادرة على مواجهة ما يلوح في الأفق من تدخل غربي سافر ومباشر في سورية، باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

 

إن تحقيق المصالحة الوطنية عبر الحوار الوطني الشامل بات مهمة وطنية لإعادة التوازن إلى العقد الاجتماعي، الذي وقع في خلل نتيجة السياسات الشمولية وغياب الحراك السياسي وفقدان الحرية والديمقراطية، مما أضعف الوحدة الوطنية وأساء إليها. مما أعطى بعض قوى المعارضة الخارجية مؤخراً فكرة الاستعانة بالغرب والاستقواء به لزيادة الضغط على سورية، مستغلة حركة الاحتجاجات العادلة وانتقالها المبرمج والسريع إلى حركات عصيان مسلّح وعصابات إجرامية تقودها خلايا وتنظيمات إرهابية سلفية توجه المعارضة وتكاد أن تحرفها عن أهدافها المعلنة، ورفضها لأية دعوة للحوار الوطني الشامل. لا بل صعدت من رفضها لكل ما جرى ويجري من إصلاحات، وهي تسعى حالياً لتعميق الأزمة وتراهن على تدويلها وحصول الغرب على موافقة مجلس الأمن بالتدخل المباشر في سورية، على غرار ما حصل في العراق وليبيا، وتصم أذنيها عن المواقف الروسية والصينية ودول عدم الانحياز برفض أي شكل من أشكال التدخل، وتأكيد هذه الدول وجود قتال مسلح ضد السلطة الشرعية تغذّيه قوى خارجية معروفة.

 

لقد أكدت الأزمة الراهنة أن النهج الوطني الديمقراطي في السياستين الخارجية والداخلية لأي سلطة وطنية هما وجهان لعملة واحدة، تصبح رديئة وتخرج بسرعة من سوق التداول، إذا لم تستند إلى وجهيها معاً، لأن كلاً منهما ملازم للآخر، ولا يجدي أي وجه ولا ينفع دون حضور وقوة الوجه الآخر.

 

وحتى يتم تحقيق ذلك لابد من إجراء تغييرات جذرية في الحياة السياسية الداخلية، وقد بدأت فعلاً وإن كانت لا تزال في خطواتها الأولى، وتمهد لحوار وطني شامل بين كل القوى والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني تحت سقف الوطن وثوابته الوطنية في وحدة التراب السوري وحق تحرير الجولان، وعدم التراجع عن سياسة الممانعة والتصدي للمشاريع الغربية الاستعمارية الرامية لفرض صلح مهين مع العدو، وحق دعم المقاومة العربية أينما كانت، وضرورة تعزيز الثقافة الشعبية المقاومة.  

 

ومن المفيد جداً أن يتزامن ذلك الحوار مع تنفيذ جملة الإصلاحات التي أعلنتها السلطة، وفي مقدمتها قانون أحزاب عصري ديمقراطي وعرضه للنقاش العام بغية تعديله وتطويره والإجماع عليه، وإلغاء المادة 8 ومتدرجاتها القانونية والسلطوية من الدستور، لأن التنوع الفكري والسياسي واختلاف المصالح الطبقية صارت تفرض نفسها بقوة في حياتنا الاجتماعية بشكل فوضوي وغير مقونن، وتنعكس حتى في المزاج الفردي والجمعي الطبقي، مما يؤكد ضرورة نزع هذا الفتيل الاجتماعي الذي بات يهدد السلم الأهلي والعقد الاجتماعي برمته، ويستدعي من الجميع الاهتمام الجدي بهذه السلبيات وضرورة تحويلها عبر الحوار إلى تيار إصلاحي وطني يشكّل لاحقاً رافعة سياسية_اجتماعية لاستعادة العدالة الاجتماعية ورص صفوف الوحدة الوطنية وصولاً إلى إعادة تشكيل الدولة الوطنية العلمانية المعاصرة.

 

 وهذا لن ينجح كما أرى إلا من خلال استعادة السياسة مكانتها اللائقة في المجتمع السوري، والاتفاق على عقد اجتماعي سوري جديد يمر عبر بوابة المواطنة والمساواة والهوية والانتماء والوحدة الوطنية لجميع مكونات المجتمع السوري وقومياته وأقلياته المتآخية وقواه السياسية لتسريع الانتقال السلمي من سيادة مرحلة المفاهيم والقيم والمعايير ما دون الوطنية، إلى مستوى وأهداف الدولة العلمانية المعاصرة والعادلة.

 

لقد نسيت عدة أجيال سورية مفاهيم ومقولات سياسية ونزعات فكرية وفلسفية وقانونية، كالمواطنة والهوية والمساواة والانتماء والوحدة الوطنية، بسبب ضعف وغياب مبادئ التنوع وحق الاختلاف والحوار.

 

وحلت مكانها مفاهيم ثابتة ومطلقة وبعضها مشوَّه، جاءت باسم الوطنية أحياناً وباسم الصمود ومسائل التحرير والمقاومة أحياناً أخرى، وتحمل نظرية الحزب القائد في الدولة والمجتمع شيئاً من مدلولات هذه المفاهيم البديلة المطلقة.

لقد أثبتت الأزمة السورية الراهنة آراء المفكرين والفلاسفة الذين يرون أن وجود العقل لدى الإنسان وتشغيله على قاعدة التنوع والاختلاف يلزمه حتماً بالبحث المعرفي والفلسفي عن مخرج يضبط إيقاع الهارموني الاجتماعي، فلا يجد حلاً إلا عبر ضرورة التسامح مع أفكاره وسيادة المساواة والحرية والاحترام المتبادل، بهدف امتلاك المعرفة والإحاطة بجوهر الاختلاف ورسم حدوده لكل مسألة لتعميق البحث حولها وجدلية ترابطها مع المسائل الأخرى، وبالتالي البحث عن الحلول الوطنية الواقعية والمتاحة لها والتوافق عليها.

 

ويساهم وجود منهج حواري يهذب الأنا ويطور ثقافتها المجتمعية في أجواء حرة وديمقراطية، جدياً، في نجاح ثقافة الحوار وارتقاء الوعي واكتساب المعارف من قبل الفرد، وبعده من قبل العقل الجمعي (الحزب - الحركة - المنظمة - النقابة... إلخ) ويعزز حق الاجتهاد والتطوير.

 

إن ادعاء طرف واحد من أطراف الحوار تملّك الأفكار السلفية الثابتة والمطلقة وإحاطة نصوصها بهالة من القداسة (الدينية أو القومية أو الأيديولوجية) يفسد الحوار ويمنعه أحياناً، ويقود إلى الجمود الفكري وغياب الرأي الآخر، فيتراجع المجتمع ويتخلف كما يحدث لدينا حالياً للأسف. وبالمقابل فإنه من المهم جداً ليس تثبيت التنوع والاختلاف عبر الحوار كغاية مجرّدة والسير بهما إلى ما لا نهاية، بل يجب جعل ذلك كلّه وسيلة للتعبير بغية تحقيق الغايات والأهداف المشتركة في أجواء من الحرية والديمقراطية.

 

2011-10-24
التعليقات