syria.jpg
مساهمات القراء
مقالات
المشهد العالمي ودعوات التغيير ... بقلم : إبراهيم الحامد

يشهد العالم اليوم تحولات وتغييرات واسعة النطاق وجملة من التناقضات تعود أساساً إلى الثورة العلمية والتكنولوجية التي شهدها القرن العشرون المنصرم وبداية القرن الحالي، والمتمثلة بالفتوحات التكنولوجية


وانفتاح العالم عبر فضاء الإنترنت والاتصالات والإعلام الفضائي، وظهور التجارة الإلكترونية..إلخ.

 

لقد احتكرت الإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تلك الثورة وفرضت عليها اجتياز الحدود المافوق القومية لبسط سيادتها على العالم، لأن الرأسمالية العالمية اليوم ترى أن الدول القومية بحدودها الحالية عقبة أمام مشروعها الشرق الأوسطي التوسعي والسيطرة على العالم. ولتحقيق ذلك فهي تسلك اليوم طرائق عدة لتحقيق هذا المشروع، بدءاً من نشر مفاهيمها وعولمة نظامها بالقوة العسكرية حيناً، واستخدام إمكاناتها السياسية والاقتصادية حيناً  آخر، أو فرض وصفات مؤسساتها المالية والسياسية على العديد من الدول النامية والشرق أوسطية من خلال أزلامها وممثليها في سلطات وأنظمة دول العالم الثالث لإسقاطها من الداخل. وخاصة الممانعة لمشروع الشرق الأوسط الأمريكي الذي هو أشبه بعتبة للسيطرة على العالم بأسره إذا تحقق.

 

كما أن الإمبريالية تلك تعمل للاستعاضة عن الدول الممانعة بأخرى أكثر مرونة والمنسجمة مع مصالحها من أجل نشر ليبراليتها الجديدة. فعوضاً عما يجب أن تقوم به أنظمة الدول الممانعة التي يستهدفها النظام العالمي الجديد من إجراءات اقتصادية وتحولات اجتماعية وديمقراطية من شأنها أن تمتين العلاقة بين الشعوب وهذه الأنظمة داخلياً، تلجأ إلى تشديد قبضتها الحديدية لقمع الشعوب وتجويعها.

 

في ضوء ما تقدم، فإن الوضع العالمي الراهن يتميز بعدم الاستقرار وتعمق الأزمة الرأسمالية الشديدة والمستعصية التي وسمت تطور النظام الرأسمالي الذي تمارس مراكزه الرئيسة صراعاً على اقتسام ثمار الهيمنة العالمية وتنشيط المؤسسات الدولية، مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والمصرف الدولي بالتعاون مع الاحتكارات المتعددة الجنسيات لإخضاع العالم وشعوبه لإملاءاتها الاقتصادية والسياسية، إضافة إلى بروز أقطاب اقتصادية عالمية ناشطة وتنامي النزوع نحو التكتلات الاقتصادية الإقليمية لضمان القدرة على التنافس والهيمنة على الأسواق. وهذا ما يجعل الوضع الراهن يتسم بتناقضين أساسيين يغذي أحدهما الآخر. أولهما قائم بين الرأسمالية المتعددة الجنسيات والأنظمة التي تحولت إلى دول (قبلية، وعائلية، وديكتاتورية،... إلخ) من جهة، والثاني ما بين هاتين القوتين والشعوب من جهة أخرى.

 

 فباتت التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية المستقبلية رهينة القوى الأساسية التي بإمكانها أن تحدد اتجاه التطور الديالكتيكي لهذه التناقضات التي ساهم تفاقمها في خلق ظروف موضوعية مواتية لتجدد نضال الشعوب المضطهدة والجماهير الشعبية الكادحة المتضررة من السياسات الرعناء الحالية، والتي اكتسبت إمكانات هائلة من الوعي الطبقي الأممي والنضالي الثوري لتحقيق طموحاتها في الحرية والديمقراطية والعيش الكريم بأمان وسلام. إضافة إلى قوى بشرية مدنية وعالمية تعمل وتناضل دون هوادة للدفاع عن القيم الوطنية والثقافية وحمايتها من الخراب والدمار الذي يتسبب به الاستغلال المتسرع والهدام للإمكانات والموارد الطبيعية والبشرية إرضاء لجشع القوى الرأسمالية بالحصول على المزيد من الأرباح، في ظل الدعوات المتصاعدة لتحرير قوى السوق والشعارات الجازمة بتفوق القطاع الخاص على القطاع العام الحكومي، وإعطاء الشرعية للتفاوت الاجتماعي، ومنع الدولة من التدخل في أي نشاط اقتصادي، وإثر اجتياح رياح الليبرالية الجديدة العاتية العالم وإعادة تشكيل السياسات الاجتماعية وفقاً للمنظور الرأسمالي الاحتكاري العالمي والتي عاثت بمصير الشعوب وخيراته فساداً وقتلاً وتدميراً.

 

وإن كان انهيار المنظومة الاشتراكية قد أحدث في البدء تراجعاً ملحوظاً لقوى اليسار والتقدم الاجتماعي ـ فها هي ذي بتنوع مشاربها ومرجعياتها المناهضة للسياسة الأمريكية تعود بمعطيات جديدة وتستعيد توازنها الاجتماعي لتسلك أشكالاً جديدة من تصعيد النضال الاجتماعي الطبقي من أجل العدالة الاجتماعية والحرية، منطلقة من أن العالم بحاجة إلى مشروع بديل مناهض للمشروع الأمريكي وسياسات التكيف لما يطبقه صندوق النقد الدولي والمؤسسات الرأسمالية المالية الأخرى.

 

فها هي ذي رياح التغيير الاجتماعي والديمقراطي تغير اتجاهها نحو اليسار، الذي باتت قواه تقرّب وجهات النظر فيما بينها، وتحدد المواقف المعللة من الظواهر الجديدة التي تجتاح عالمنا اليوم، وتفضح السياسات والأيديولوجيات القائمة على الليبرالية الجديدة واقتصاد السوق والنتائج الاجتماعية الكارثية التي أسفرت عنها في البلدان النامية، وحتى في البلدان الرأسمالية ذاتها.

 

 وها هو ذا اليسار تصعد قواه إلى السلطة في العديد من البلدان الأمريكية اللاتينية عقر دار الرأسمالية العالمية، وكذلك بعض الدول الأوربية، من خلال الانتخابات وصناديق الاقتراع. ومن المتوقع أن تشهد أمريكا الوسطى والجنوبية معارك انتخابية مقبلة تحسم لصالح اليسار لأن هذه القارة حبلى بتناقضات اجتماعية عميقة ومتفاقمة، وها هي ذي الشعوب والجماهير الكادحة في دول العالم الثالث ـ بدأت تنتفض بوجه الظلم الطبقي والاجتماعي والتجويع والبطالة التي مارست بحقها سلطات أنظمة تلك الدول طويلاً تحت شعارات لم تعد تنطلي على أحد. فقد سقطت آخر ورقة توت وكشف المستور وبانت تبعية تلك الأنظمة للدوائر الإمبريالية العالمية سياسياً واقتصادياً.

 

إن القراءة الصحيحة لهذه التحولات ما بعد انهيار المنظومة الاشتراكية هي دلالة تاريخية متأصلة في النهج الماركسي على أن النضال الطبقي والاجتماعي هو مسعى دائم للمجتمع الإنساني من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، إنه لن يموت وإن خبت جمرته حيناً فإنه سرعان ما تتوهج من جديد لأن التغيير والتطور الاجتماعي الثوري سمة أساسية وطبيعية في تاريخ التطور الإنساني على الأرض. فبات لزاماً أن تتغير الأساليب والعلاقات والقوانين والمفاهيم التي تشكلت في ضوء السراج، وما زالت سائدة إلى يومنا هذ ا على الرغم من التطور الهائل لوسائل الإنتاج والثورة العلمية التكنولوجية، وفقاً لمقولة ماركسية (تتطور أساليب الإنتاج بتطور وسائل الإنتاج). ووفقاً لذلك نؤكد أن الحياة حبلى بمولود جديد وباتت في حالة المخاض والمولدون كثر، ففئة منهم تسعى لإجهاضها بالعنف والقوة ليظلوا في علية الشعوب ويظلوا في نهمهم الجشع الذي لا يشبعه إلا حفنة من التراب.

 

وفئة أخرى تسعة للقيام بولادة قيصرية (قسرية) ليأتي المولود وفق مآربها ومصالحها الضيقة والسليم في الأمر أن يأتي المولود بشكل طبيعي عبر تغيير جذري للعلاقات والأساليب والقوانين التي أكل عليها الدهر وشرب، وإبدال أساليب وعلاقات وقوانين أكثر عصرية بها تلبي متطلبات الحياة الاجتماعية الراهنة وتقلص الهوة بين الشعوب والأنظمة، ولا يتأتى ذلك إلا مع عقد اجتماعي جديد يؤمن لكل مواطن حقوق المواطنة الكاملة، وينظم العلاقة الديمقراطية بين الشعوب والحكومات على أن تكون الغلبة للشعوب كجهة رقابية على عمل الحكومات والأنظمة وتغييرها، في ظل سلطة قضائية مستقلة، وجيش وطني مستقل، وإعلام مستقل وصحافة حرة لا تأتمر بأمر الأنظمة، لتكون مهمتها حماية الدولة والشعب وهيبتهما ككيان وطني من سطوة الأنظمة وعبث الفاسدين والمخاطر الداخلية والخارجية في آن واحد. وخير طريقة لبناء هذا العقد الاجتماعي هي طاولة مستديرة لحوار يضم أطراف معادلة الحوار السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإثنية والدينية.

 

وإزاء التطورات في المرحلة المقبلة، المفتوحة على احتمالات عديدة، لا بد لجميع الشيوعيين من مواجهة المنعطف التاريخي الذي تمر به بلادنا، كقوة وطنية جامعة، موحدة، تعبر دائماً عن المصالح الوطنية العليا، وعن ضمير الجماهير الشعبية عامة والكادحة بالجهد العضلي والفكري خاصة، وتجسد بسياستها وممارستها، الوحدة الوطنية، فتتحول بحق إلى قوة محركة لأوسع حركة وطنية، وفي الوقت نفسه رافعة لأوسع حركة ديمقراطية، تبني دعائم الدولة السورية الحديثة التي تقوم على حقوق المواطنة والعدالة الاجتماعية، وتتمتع بالسيادة الكاملة على أراضيها وشعبها ومواردها الاقتصادية، وإعادة أراضيها المغتصبة وفي مقدمتها هضبة الجولان.

2011-10-24
التعليقات