syria.jpg
مساهمات القراء
مقالات
الثقافات تتواصل ولا تتصارع ... بقلم : محمد راتب الحلاق

التواصلُ يمثلُ غايةَ الاتصالِ الناجحِ وكمالَهُ. والتواصل يضمر القبول بالآخر، ويقر بالتعددية وحق الاختلاف، ويسعى إلى البحث عن المشتركات التي تضمن نجاحه في الوصول إلى أهدافه.


أما التفاصلُ فعمليةٌ مناقضةٌ للتواصلِ من حيثُ الوسائلُ والغاياتُ في آنٍ معاً. وقد عبروا عن التفاصلِ بمصطلحِ (القطيعة). والتفاصل يشي برفض الآخرِ وعدمِ الاعترافِ بحقِّهِ في الاختلافِ، ويضمرُ نزعةً استئصاليةً مستبدةً تدَّعي أنَّ جهةً ما وحدَها هي التي على حقٍّ، وأنها الفرقة الناجية. أما الآخرون ففي الضلالِ يعمهون، مما يقودُ إلى التناحرِ والتنابذِ والرغبةِ في القضاءِ على الآخرِ بكلِّ صورِ التصفيةِ المتاحةِ، ويتحوّلُ المجتمعُ إلى الفوضى العارمةِ، كلُّ حزبٍ بما لديهم فرحون، وكلُّ حزبٍ يحاولُ أن يستأثرَ بالسلطةِ والثروةِ من دونِ الآخرين.

 

 وعندما تكونُ العلاقةُ بين الثقافاتِ هي المقصودةُ تكونُ القطيعةُ حينئذٍ قطيعةً معرفيةً، وهذه القطيعةُ قد تكونُ رأسيةً إذا كانت ضمن الثقافةِ الواحدةِ، تتمثل في الدعوةِ إلى البدءِ من جديدٍ، بعد طيِّ صفحةِ الماضي وما فيها من الإنجازاتِ والإخفاقاتِ. وقد تكونُ القطيعةُ أفقيةً تحدِّدُ علاقةَ الثقافةِ بغيرِها من الثقافات، وتتعلقُ طبيعةُ هذه العلاقةِ بقوّةِ الثقافةِ أو ضعفِها، وبقوّةِ المجتمعِ الذي يحملُها أو ضعفِهِ، لأن الثقافةَ السائدةَ في مجتمعٍ قويٍّ تسعى إلى تعميمِ رؤاها وفرضِها على الآخرين.

 

ومن الملاحظِ أن المجتمعاتِ الضعيفةَ تميلُ إلى التقوقعِ والانغلاقِ نتيجةَ الخوفِ على هوياتِها وثقافاتِها، في حين تكونُ المجتمعاتُ القويةُ، أو التي تستعدُّ للدخولِ في حالةِ نهوضٍ، مستعدةً للانفتاحِ على الآخرين، تأخذُ منهم وتعطيهم، وعندها الثقةُ بثقافاتِها، ولا تخشى عليها من الذوبانِ في ثقافاتِ الآخرين، بلْ إنَّها لا تأسفُ على مالا يستطيعُ الصمودَ أمامَ الفكرِ الوافد،على أساس أن لا خيرَ في الذي لا يستطيعُ الثباتَ والممانعةَ القائمةَ على الحُجَّةِ والبيّنةِ، ولا في الذي لا يستطيعُ الإجابةَ عن أسئلةِ الواقعِ ومستجداته إجابةً موفقةً، ولا في الذي ينخلعُ منْ جذورِهِ بنفخةٍ واحدةٍ منْ روحِ الحقِّ.

 

وسأتّخذَ منْ ظاهرةِ ما باتَ يُعْرَفُ بحركاتِ الإسلامِ السياسيِّ مثالاً لما ذهبتُ إليه في مفهومِ التواصلِ والتفاصلِ. وسيلاحظ القارئ، منْ خلالِ تناولي لهذهِ الظاهرةِ، مدى التواصلِ والتفاصلِ في فكرِ هذهِ الحركاتِ معَ التراثِ العربيِّ الإسلاميِّ ومعَ الفكرِ الغربيِّ الوافدِ. وخلافاً للبحثِ العلميِّ والموضوعيِّ، الذي يضعُ النتائجَ بعدَ المقدماتِ عادةً، فإنني أقفزُ إلى النتائجِ مباشرةً وأقولُ إنَّ هذهِ الحركاتِ، عكسَ ما هوَ شائعٌ أوْ متوقعٌ، تتواصلُ معَ بعضِ تجلياتِ الفكرِ الغربيِّ أكثرَ من تواصلِها معَ التراثِ العربيِّ الإسلاميِّ، رَغْمَ ادعاءاتِها الطويلةِ العريضةِ بغيرِ ذلكَ، ورغمَ الرطانةِ المستمرةِ بالمصطلحاتِ التراثيةِ، التي يتمُّ ليُّ أعناقِها لتتلاءمَ معَ أهدافِ تلكَ الحركاتِ وتوجهاتِها. فهذهِ الحركاتُ، إلى الآن، لم تستطعْ أنْ تقولَ، أو تفعلَ، شيئاً حيالَ القوانينِ المدنيةِ المُتَبَنَّاةِ في الدولةِ العربيةِ أو الإسلاميةِ الحديثةِ،مما اضطرها أخيراً إلى رفع شعار بناء الدولة المدنية، لتتلاءم مع الحراك الجماهيري الذي تشهده المنطقة العربية، لأنّها أدركت (عن اقتناع أو رضوخاً للواقع) أن  جميعَ القوانين والتشريعاتِ المسماةِ وضعيةً، والتي تمَّ تبنيها هنا وهناك من بلادِ العربِ والمسلمينَ، يمكنُ أنْ تعد اجتهاداتٍ تجيبُ عن الأسئلةِ التي يواجهُهَا العربُ والمسلمونَ في حاضرهم، وكأيِّ اجتهادٍ فإنَّها صحيحةٌ جميعاً، ما لمْ يكنْ فيها ما يعارضُ صراحةً نصّاً قطعيَّ الدلالة... والأولى بالاتباعِ منْ تلكَ الاجتهاداتِ أصلُحها، وأصلُحها ما يحقّقُ المصلحةَ العامةَ؛.مما يجعلُ شعارَ (الإسلام هو الحل) شعاراً تعبوياً وسياسياً بامتياز.

 

وقد حاولَ كثيرٌ من الباحثين تفسيرَ ظاهرةِ ما باتَ يعرفُ بحركاتِ الإسلامِ السياسيِّ، وقد راقتْ لهم الفكرةُ التي تقولُ إنَّ هذهِ الظاهرةَ ليستْ أكثرَ منْ احتجاجٍ على سوءِ الأوضاعِ الاقتصاديةِ والسياسيةِ والاجتماعيةِ السائدةِ ؛ وإنهاَ ردّ على إخفاقِ المشاريعِ القوميةِ والعلمانيةِ التحديثيةِ، وهيَ، منْ ثمَّ، ردةُ فعلٍ أكثرُ مما هيَ فعلٌ حقيقيٌّ، وظاهرةٌ مؤقتةٌ سرعانَ ما تزولُ بزوالِ الأسبابِ التي أنتجتْها، أيْ بزوالِ الفسادِ والاستبدادِ والتبعيةِ الثقافيةِ والسياسيةِ للغربِ الذي أذاقَ العربَ والمسلمينَ الأمرَّيْنِ، وقامَ باستلابِهم مادياً ومعنوياً.

 

وهذهِ الفكرةُ مغريةُ بقدْرِ ما هيَ بحاجةٍ إلى مزيدٍ من التدقيقِ المعرفيِّ، لأنها ليست كافيةً لتفسيرِ الظاهرةِ تفسيراً يقبلُ به الجميعُ. نعمْ، قدْ يشكّلُ الفسادُ والاستبدادُ التربةَ الصالحةَ والخصبةَ لنشوءِ تلك الحركاتِ ونموِّها، ولكنْ الأَوْلى أنْ تُضافَ إليها فكرةٌ أخرى تقولُ إن بعض ما يُدْعى بحركاتِ الإسلامِ السياسيِّ، ولاسيما التي تدّعي الوسطيةَ والاعتدالَ، قد دعتْ، لأنْ تستعيدَ المجتمعاتُ العربيةُ والإسلاميةُ توازنَها، دون أن تلتحق بالفكر الغربي التحاقاً يعطل آليات الانتقاد، ودون أن تنغلق على ذاتها وتكتفي بما أنجزه السلف (الذين لم يتركوا شيئاً للخلف!). وقد كانت دعوة تلك الحركات (الوسطية) دعوة بارعة لأنها استفادت كثيراً منْ خزّانِ القيمِ الذي تمتلكُهُ تلكَ المجتمعاتُ، واستطاعتْ أنْ توظّفَ هذه القيمَ، ببراغماتيةٍ ماهرةٍ لتحقيقِ أهدافِها ومواجهةِ المختلفين معها. فهيَ تدَّعي التواصلَ معَ تراثِ الأمةِ وقيمِها وتاريخِها وفكرِها... مع أنَّها إنما تتواصلُ في الحقيقةِ معَ الفكرِ السياسيِّ الغربيِّ الوافدِ، لأنَّ هذهِ الحركاتِ جميعاً، على اختلافِ مشاربِها، إنما تهدفُ للوصولِ إلى السلطةِ، وهي ليستْ حركاتُ إصلاحٍ دينيٍّ كما قدْ يتبادرُ إلى الذهنِ لأوَّلِ وَهْلَةٍ، وهذا ما جعلَها في حالةِ صراعٍ شرسٍ مع السلطاتِ القائمةِ، ومعَ الحركاتِ السياسيةِ الأخرى في المجتمعِ، تجاوز في كثيرٍ منَ الحالاتِ التنافس السلمي الشريف ووصل إلى حدِّ العنفِ المسلحِ ضدَّ المجتمعات والسلطات في آن معاً، الأمرُ الذي يذكّر بما كانَ قدْ فعله الخوارجُ من قبلُ، إذْ لَوْ كانتْ حركاتُ إصلاحٍ دينيٍّ تعبديٍّ ما كانتْ السلطاتُ لتعبأَ بها، ولكانت دعتْ إلى فكرِها بالتي هي أحسنُ، وبهديٍ من قاعدةِ      (لا إكراهَ في الدينِ)، التي ينبني عليها أنْ لا إكراهَ في الرأيِ ولا في الفكرِ، فالرأيُ الآخرُ، والفكرُ الآخرُ إنْ لمْ يكنْ صواباً فإنّهُ يحتملُ الصوابَ، ومنْ حقِّهِ أنْ يدخلَ في حوارٍ مع الآراءِ والأفكارِ الأخرى، في إطارِ من التعدُّدِيَّةِ الخلاّقَةِ، التي تتيحُ الفرصةَ لتقليبِ الأمورِ على وجوهِهَا الممكنةِ جميعاً، وبذلكَ يحدثُ الحراكُ الثقافيُّ والفكريُّ المطلوبُ دائماً، ويسيلُ الحبرُ بدَلَ الدمِ.

 

والفكر السياسيَ لهذه الحركاتِ التي تدّعي الوسطية لا يعبأُ بالقراءاتِ الأصوليةِ الصارمةِ للكليّاتِ والمبادئِ الإسلاميةِ، وإنما يقرأُ تلكَ المبادئ والكلياتِ قراءةً تخدمُ مصالحَهُ السياسيةَ، وتكفلُ لهُ حشدَ أكبرِ عددٍ ممكنٍ مِنَ الأنصارِ (والأصواتِ الانتخابيةِ)، في مجتمعاتٍ لمْ يتجذَّرْ فيها الفكرُ السياسيُّ الديمقراطيُّ والعلمانيُّ، وإنما بقيَ مجرَّدَ غطاءٍ برّانيٍّ صفيقٍ، تتداولُهُ النخبُ المعزولةُ عنْ الجماهيرِ، ممّا جعلَهُ ضعيفاً أمامَ تغوّلِ السلطاتِ القائمةِ، وعاجزاً عن الانتصارِ في أيَّةِ مواجهةٍ انتخابيةٍ نزيهةٍ (أو شبه نزيهةٍ وغيرِ مزورةٍ بصورةٍ فاقعةٍ منْ قِبَلِ السلطات)، وهذا ما حدثَ في أكثر من مكانٍ. ومثلُ هذهِ القراءةِ تتواصلُ معَ الفكرِ السياسيِّ الغربيِّ أكثرَ من تواصلِها معَ الفكرِ السياسيِّ المتوارثِ، بلْ إنَّها تكادُ أن تقطعَ معَ هذا الفكرِ التراثيِّ قطعاً شبه تام، هذا إذا لم تخدعنا المصطلحات التي يتكئ عليها هذا الفكر، والتي يستدعيها من كتب التراث، من عيار الشورى، وأهل الحل والعقد، والخلافة، وبيت المال ؛ لأن هذه المصطلحاتِ قد شُحِنَتْ بحمولاتٍ غربيةٍ، وبدلالاتٍ لا يعرفُها فكرُ الماوردي ولا الماتريدي ولا الفكرُ السياسيُّ التراثيُّ عموماً. ثم إن القنواتِ التي تتوسّلُ بها تلك الحركاتُ للوصولِ إلى السلطةِ قنواتٌ تتواصلُ مع القنواتِ القادمةِ منَ الفكرِ السياسيِّ الغربيِّ لا مع الفكرِ التراثيِّ. فالوصولُ إلى السلطةِ يتمُّ عَبْرَ صناديقِ الانتخابِ المنتشرةِ في الحواضرِ والبوادي لا بأسلوبِ اُمْدُدْ يدَكَ لأبايعَكَ، في المسجدِ الجامعِ أو في سقيفةِ بني فلانٍ أو بني علانٍ!

 

والخلاصةُ أنَّ ما يُسَمَّى بحركاتِ الإسلامِ السياسيِّ تتواصلُ معَ الفكرِ السياسيِّ الحديثِ ذي المرجعيةِ الغربيةِ وإن استخدمتْ مصطلحاتٍ تراثيةً، وهي حركاتٌ ذرائعيةٌ هدفُها الوصولُ إلى السلطةِ عَبْرَ قنواتٍ معاصرةٍ. وتحاولُ أنْ تستفيدَ منْ أخطاءِ الآخرين، وأنْ تقدِّمَ نفسَها على أنَّها النقيضُ للفسادِ والاستبدادِ والتبعيةِ للغربِ، وأنْ تمنحَ نفسَها الأسماءَ الحُسْنَى دونَ ضمانٍ بصدقِها، لأنَّها لمْ تُجَرَّبْ بَعدُ، وإخفاقُ الآخرينَ لا يعني أنها ستنجحُ، بلْ إنَّ اللحظاتِ السياسيةَ التي أُتيح لها فيها أنْ تمارسَ بعضَ النفوذِ لمْ تكنْ في صالحِها.

 

بقيَ أنْ أقولَ إنَّ أفضلَ وسيلةٍ للتعاملِ مع حركاتِ الإسلامِ السياسيِّ، أنْ يُسْمَحَ لها بالعملِ العلنيِّ كبقيةِ الحركاتِ السياسيةِ الأخرى، وأن يُسمحَ لمشاريعِها السياسيةِ بالتنافسِ معَ مشاريعِ الآخرينَ، وعندئذٍ إمّا أنّها سترتقي بخطابِها لينافسَ خطاب الآخرينَ، وتقدم المشاريع التي يجد فيها المواطنون الحل الأفضل لمشكلاتهم، وإما أنها ستذوبُ وتتلاشى، لأنَّ الجماهيرَ إنْ أُخِذَتْ على غِرَّةٍ مرةً بوهجِ الشعاراتِ الخاويةِ من الدلالاتِ، فإنها لنْ تنخدعَ مرةً أُخرى، وستنحازُ لما فيه مصلحتُها ومستقبلُها. إن الجماهيرُ تحتاجُ إلى شيءٍ تضعُهُ على النار (حسب المثل الشائع) لا أنْ تُؤَجَّلَ لها الأمورُ باستمرارٍ، بالإحالةِ على الآخرة دائماً، في حين يرتع زعماء تلك الحركات، مع الراتعين من زعماء الحركات السياسية الأخرى، في الجاه والثروة.

2011-12-15
التعليقات