syria.jpg
مساهمات القراء
مقالات
إستشراف المستقبل (1) ... بقلم : نبيل حاجي نائف

كان التفكير في المستقبل أحد أهم الهواجس التي شغلت فكر الإنسان منذ بداية ظهوره على سطح الأرض في العصور المبكرة جدا وخلال كل مراحل التاريخ


فقد كان تفكير الإنسان يرصد دائما الأحداث التي تدور حوله , ويعمل على استشراف التغيرات المستقبلية الناجمة في معظم الأحيان عن أنشطته هو نفسه, في مختلف مجالات الحياة, ويستعين بالمستجدات التي تلازم ظهور هذه التغيرات في إحداث تغيرات ومستجدات أخرى وهكذا.

 

أن الاهتمام باستشراف المستقبل ليس مقصورة على المجتمعات الغربية أو على العصر الحديث. فقد كانت كافة المجتمعات  شديد الولع دائما بتعرف مستقبلها وما يخبئه القدر لأعضائها, وكانت لها وسائلها البسيطة, التي تعتبر الآن وسائل ساذجة وغيبية مثل التنجيم والسحر والشعوذة وغير ذلك من الوسائل التي لا تتفق مع العلم الموضوعي الحديث, ولكنها تعتبر في نظر أصحابها نوعا من (العلم) , خاصة أن قدراً من التنبؤات التي يصل إليها استخدام هذه الوسائل قد يتحقق بالفعل على مستوى الواقع. ما هو المستقبل ؟ 

 

يرى "فرنسيس جاكوب" الحائز على جائزة نوبل أن "المستقبل هو أحد الملكات التي ينفرد بها البشر عن سائر الكائنات الأخرى" رغم أن فكرة المستقبل فكرة غامضة ومراوغة إلى حد كبير، بل ثمة آراء متعارضة ومتضاربة حولها , ويمكن تعريف المستقبليات بأنها "التاريخ التطبيقي" فهي تنشط وتتقوى حيث يتوقف التاريخ . والمستقبليون لا يقنعون بمجرد فهم ما حدث في الماضي ، فهم يريدون أن يستخدموا معرفتهم لتنمية فهم المستقبل ، ويؤكدون أن المستقبل ، لا الماضي هو بؤرة الفعل الإنساني ، وأن قيمة الماضي هي امكان استخدامه لإنارة المستقبل.

 

" مستقبليات " futuribles  هذا الاصطلاح كان وليد اجتهاد المؤرخ الألماني " اوسيب  ك فليتشتايم " الذي استخدمه عنوانا لكتابه (التاريخ وعلم المستقبل) الصادر عام 1949 فاتحاً بذلك المجال أمام الدراسات التي حاولت بناء استراتيجيات شاملة بعيدة المدى في مختلف المجالات . قبل هذا التاريخ كان أعضاء رابطة رواية الخيال العلمي في انجلترا قد اقترحوا وزارة للمستقبل ومنذ الثلاثينيات كانت مجلتهم الغد منبرا للدراسات المستقبلية , وثمة كتابات - يرجع معظمها إلى القرن الثامن عشر في أوربا - كانت تتوقع أو تتنبأ بوقوع أحداث معينة في القرون التالية, وفي القرن العشرين على وجه الخصوص, وبعض هذه الكتابات له طابع منهجي وشبه علمي واضح. ومن أطرف هذه الكتابات كتاب أصدره أحد رجال الدين في بريطانيا ويدعى " صامويل مادن" تحت عنوان (ذكريات القرن العشرين ) , ويعتبر الكثيرون من المهتمين بالدراسات المستقبلية, أن كتاب مادن هو البداية الحقيقية الممهدة لظهور (علم المستقبل).

 

وقد ظهر بعد ذلك عدد آخر من الكتب التي سارت على المنوال نفسه, ولكن بطريقة أكثر دقة ومنطقية وأشد تطلعا , ومن الطبيعي أن يدخل في هذه الكتابات المبكرة كثير من الخيال الذي لم يتحقق بعد.

 

وقد انتشر هذا النوع من الخيال المستقبلي انتشارا كبيرا خلال القرن التاسع عشر, بفضل كتابات الفرنسي " جول فيرن " والأمريكي " جودمان كرولي "   وغيرهم .

 

الفرنسي " غاستون بيرجيه " الذي افتتح عام 1957 المركز الدولي للمستقبل المنظور وفي حينها أطلق على علم المستقبل اصطلاح علم الريادة prospestive وأصدر مجلة بالاسم نفسه وقد حدده بيرجيه بالقول انه تأمل في المستقبل  القصد منه أبراز معالمه بهدف التوصل إلى عناصر منهج لكي يمكن تطبيقه على عالمنا المنطلق بسرعة متزايدة .

 

في أميركا نشأ علم المستقبل محكوما بمنظومة المعايير البراجماتية التي حكمت الفضاء الأميركي فكان طبيعيا ولادة هذا المجال البحثي داخل المؤسسة العسكرية لاستغلاله في مجال تطوير الاستراتيجيات والأسلحة المتطورة وقد عززت الحرب الباردة هذا المجال ودفعته إلى الأمام , وقد برز في هذا المجال الجنرال        ( هـ.هـ. ارنولد ) القائد العام لسلاح الطيران بإنشائه ( مصنع الفكر ) الذي ضم نخبة مختارة من الدارسين وكان الدور الأكبر لـ( ثيودور فان كارمان) إذ أجرى استطلاعا عن قدرات أميركا التكنولوجية في تقريره ( نحو آفاق جديدة ) قاد إلى تشكيل إنشاء مركز التنبؤ التكنولوجي بعيد المدى للجيش , وبين أيضا من خلاله أن التنبؤ بالقدرات التكنولوجية ليس ممكنا فحسب بل ضروريا , ثم جاء مشروع تنبؤ القوات الجوية ) عام 1963 إذ اجتمعت فيه جهود سبعين مؤسسة بحثية وأربعين هيئة فضلا عن ست وعشرين جامعة ليخرج المشروع لـ" بأربعة عشر مجلدا " حول الخصائص التكنولوجية للقوى التي يمكن أن تقدم الدعم لوزارة الدفاع الأميركية لمرحلة ما بعد 1970 .

 

ثم كان لأعمال مؤسسة رائد وما قدمه عالم الرياضيات " اولان هيلمر" في بحثه نظرية المعرفة للعلوم غير الدقيقة دور كبير في بناء قاعدة (غطاء نظري) فلسفية للدراسات المستقبلية بالاعتماد على تقنية دلفي التي تذهب إلى ضرورة اخذ رأي كل خبير بصورة غير معلنة بحيث لا يعرف من يستكتب أن غيره أيضا استكتب ثم تتم  مقارنة الآراء وتحليلها .

 

وكان الدور الأبرز لهذا المعهد يتمثل بالتخلي عن الحتمية والقول بان هناك العديد من أشكال المستقبل المحتملة، وان التدخل الملائم يمكن أن يخلق اختلافاً في أرجحيتها، وهذا يحدد السبل الدقيقة لعملية ارتياد المستقبل واستكشافه، والبحث عن طرق للتأثير في اتجاهه .

 

ولقد ظهرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي أسماء كثيرة لها شهرتها في مجالات متنوعة من المعرفة, ولكن كان لها أيضا في الوقت ذاته آراء وأفكار ناضجة عمّا سيكون عليه الوضع العالمي في المستقبل, وبخاصة في مجالات تخصصاتهم, وذلك بالإضافة إلى كتابات العلماء المتخصصين أصلا في علم المستقبل أو الدراسات المستقبلية. وربما كان أشهر هؤلاء المفكرين المهتمين بالموضوع - على الأقل بالنسبة للقارئ العربي - هو " ألفين توفلر" صاحب كتاب (صدمة المستقبل) الذي صدر عام 1970 وكان له صدى واسع في الأوساط العلمية والإعلامية, سواء بالنسبة لآرائه وتصوّراته المستقبلية, أو بالنسبة للنظرة المنهجية الكلية الشاملة التي تناول بها المشكلات التي يدور حولها الكتاب. ولم يذهب أحد من هؤلاء الكتاب المفكرين, أو من المتخصصين في علم المستقبل, إلى ادّعاء أن ما يصدر عنهم من آراء أو توقعات هي (نبوءات) وأحكام أخيرة قاطعة, بل كانوا يدركون دائما أنها مجرد احتمالات أمكن الاستدلال عليها من القراءة العقلانية المتأنية لسير الأحداث ومتابعة الأوضاع والظروف العامة المحيطة بالمجتمع العالمي, وانعكاس هذه الأوضاع والظروف على الأنشطة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية المختلفة. فالباحث أو العالم المتخصص في علم المستقبل يعيش بذهنه في ذلك المستقبل وينظر إلى الغد على أنه تاريخ يمكن قراءة اتجاهاته الرئيسية, كما أنه (أي العالم المستقبلي) يعمل جاهدا وبأسلوب علمي دقيق على اللحاق بالغد, والسيطرة عليه وتوجيهه قبل أن يفاجئه ذلك الغد بحقائقه ووقائعه فيتحكم في حياته ويسلبه حريته في التفكير والعمل. كذلك يتمتع الباحث أو العالم المستقبلي بقدرة فائقة على الإحاطة الشاملة بالأوضاع السائدة في المجتمع الذي يعيش فيه, وفي فرع تخصصه المعرفي الدقيق وتحليل هذه المعطيات في ضوء الاتجاهات العالمية, حتى يمكنه إعداد الأذهان للمتغيرات والمستجدات المتوقعة, ووضع الخطط الملائمة للتعامل معها على المدى القريب والمدى البعيد, مع الاستناد إلى دراسات ميدانية دقيقة وعدم الركون إلى الظن والتخمين إلا في الحدود التي تسمح له بها المعلومات المؤكدة اليقينية.

 

لقد تخطت عمليات استشراف المستقبل في الوقت الحالي تلك المرحلة الأولية المليئة بالخيال الذي لم يكن يستند في معظم الأحيان إلى حقائق ووقائع مدروسة بطريقة علمية دقيقة, كما هو الشأن الآن, بل ولم تعد هذه العمليات تقنع بالتنبؤ بما سوف يحدث اعتمادا على رصد الواقع, ثم تهيئة الأذهان للتغيرات المحتمل حدوثها, وإنما أخذت تهتم إلى جانب ذلك بالتخطيط العلمي السليم لمواجهة هذه التغيرات بإجراءات حاسمة وفعّالة, أي أنه أصبح لها أهداف عملية أو تطبيقية تتجاوز مرحلة المعرفة النظرية البحتة, وتعنى بوضع الخطط ورسم السياسات التي تكفل حسن الإفادة من هذه التغيرات مع الاستعانة في ذلك بقراءة التاريخ ورصد مسار الاتجاهات العامة السائدة في المجتمع, بل وفي العالم كله, والنظر إلى الأحداث من منظور شامل وكلي يأخذ في الاعتبار مختلف الاحتمالات و الإمكانات.

 

وقد ساعدت هذه الخطوات على اعتبار عمليات استشراف المستقبل دراسة علمية, أو حتى (علما) قائما بذاته   وله مقوماته التي تبرر الإقبال المتزايد على التخصص فيه. وإن كان هذا لا يمنع من أن الأحداث المفاجئة قد تأتي مغايرة لكل التوقعات في بعض الأحيان. ويرى الكثيرون أن ذلك يفرض بعض المحاذير على اعتبار دراسة المستقبل (علماً) بالمعنى الدقيق للكلمة. إنما المهم هو أن استشراف المستقبل لم يعد مجرد مسألة إشباع الرغبة الطبيعية لدى الإنسان في تعرف المجهول, وإنما أصبح مطلبا أساسيا وضروريا لتحقيق التواؤم مع المتغيرات المرتقبة في مختلف مجالات الحياة, سواء في ذلك العلاقات السياسية بين الدول بعضها بالبعض الآخر, واحتمال ظهور أيديولوجيات جديدة مناوئة, أو الأنشطة الاقتصادية المختلفة مثل مستقبل الصناعة والإنتاج, أو الجهود العلمية المتعلقة بحياة الإنسان وتكوينه البيولوجي, وما قد يتعرض له من أمراض نتيجة للتغيرات البيئية وإفرازات النشاط الصناعي واستخدام أنواع معينة من الطاقة, أو الأحداث الكونية الكبرى التي قد تؤثر في علاقة البشر وعلاقة كوكب الأرض بالكواكب والأجرام السماوية الأخرى وغير ذلك كثير.

 

تتوزع مناهج الدراسات المستقبلية بين أربعة اتجاهات رئيسة .

الاتجاه الأول يقوم أصحابه بانتقاء بعض المتغيرات التي يعتقد بوجود أهمية خاصة لها، وتتبع مساراتها كالمتغير السكاني ومتغير الموارد .

فيما ذهب أصحاب الاتجاه الثاني إلى القول بأن اعتماد التنبؤات هو الأساس لبناء قاعدة صلبة من المقدمات تبنى عليها نتائج مستخلصة منها، وبهذا يكون اقرب إلى"الخططية " التي شاعت في المعسكر الاشتراكي.

 

وهناك اتجاه الاستعانة بالدراسات التي تركز على ما تشهده التقنية من تقدم .

فيما ركز أصحاب الاتجاه الأخير على منهج التحليل المستقبلي ألاستشرافي ، الذي لا يسعى إلى نبوءة أو تخطيط ، بل يقوم بمجموعة من التنبؤات المشروطة (احتمالات متعددة ممكنة ) التي تفترض الواقع تارة أو المأمول فيه تارة أخرى من دون أن تنتهي إلى قرار بتحقيق أي من هذه الصور.

 

2011-12-17
التعليقات