( مدرسة ابتدائية ، كانت تملأ صدى الحي الفقير بالبراءة ، وترسم بسمةً صدئة على وجه عجائزه ، مدرسة خجولة ، مجاورة لمستوصفٍ صغير ، تملأ قلوب بالمارة بالنشوة ، شامخين رافعين الرأس عالياً ، ففي حيهم هذا مستوصف .. لا بل مدرسة أيضاً .. )
في تلك المدرسة درسَ مطر ، وأرهق مدرسيه بأسئلته البعيدة عن الطفولة ، كان يكره أن يكتب بالقلم الرصاص والقلم الأحمر ، يحب أن يكتب كل شيء بالقلم الأخضر ، فيملأ دفاتره ربيع ، وينثر نعناع طفولته أمام باب المدرسة ، كان يعرف الطريق جيداً إلى المنزل ولكنه لم يذهب يوماً لوحده ، ينتظرني كي آتي إليه فيغمر يدي الباردة بدفء يديه ويذهب بي إلى البسطة كي أشتري له صحف الصباح ، وكان مصراً في كل مرة أن لا يخلع مريول المدرسة حتى أقرأ له كل الصحف ويستفسر عن كل خبر ..
( غريبة تلك الصحف ، أليس من الأفضل أن تنقل لنا الخبر قبل حدوثه ..!؟ )
يسأل مطر عن كل ما يراه وعن كل ما يسمع به ، وإن لم أجبه أنا فيسأل كل أهل الحي حتى يحصل على إجابة تقنع جمجمته الغضة ، حتى أنه بات يعلم معنى كل الألفاظ النابية التي تقال في الحي ..
كان طفلاً يطيح بثلاث رجال ، ورغم كل هذا ، كان رقيقاً كالفراشة ...
( مساء ماطر في منفى ، قيامة ونار أصبحت الأيام ، مئة وخمسون رب وأنهار من عبيد ، سعار على الجراح ، ومهنة أصبح الموت ، يحترفها الجميع ...)
لم يذهب مطر إلى مدرسته بعد أن فاحت رائحة الموت وطغى صوته على مسامع كل من في المدرسة ، رائحة غريبة تفوح من المستوصف المجاور ، هجرت البسمة وجه المدينة ، وهجرت الأرواح أجسادنا النحيلة ، لم يقرأ مطر في صحف الصباح أن السماء ستمطر قنابل ، وأن مطر السماء سيمشي في الأرض أشلاءً ودماء ، لم يقرأ مطر في كتاب الفيزياء أن الهواء يمشي رصاصاً وشظايا ، كفيلم إباحي أصبحت أيامنا ثمانية عشر سنة وما فوق ، كل الأطفال مختبئة في بيوتها من ذلك الفيلم المخيف .
إلا مطر ، اليتيم لي و أنا اليتيم له ، أقف أنا مذهولاً بين رجال الحي أمام باب المستوصف ، ومطر كالنسر يخلع طفولته واقفاً في أول الحي ، ينتظر السيارات التي ستأتي محملة بالمصابين والأشلاء ، وعند كل سيارة ، يركض أمامها مسرعاً نحو باب المستوصف وينهال على أهل الحي بالشتائم كي يفسحوا الطريق له ..
يقفز إلى باب السيارة فيفتحه ، ويضع يده الصغيرة على جرح المصاب إلى أن يدخله رجال الحي إلى المستوصف ..
مئات السيارات أتت ، وعند كل سيارة يفسح مطر الطريق لها وعند كل مصاب أقف في زاوية وأبكي ذكرياتي معه ، يضمني مطر إلى صدره فأبكي الوطن ، يمسح دموعي بكفه الأبيض
تباً لمدينة لا يجمع سكانها إلا الموت،ولا يجمع أمواتها إلا التراب ..
مطر : إن أردت أن تبكي كالنساء فاذهب إلى البيت
_ سأذهب ولكنك ستذهب معي
مطر : لن أفارق هذا المكان ، اذهب أنت وأحضر لي ما يملأ معدتي عندما ستعود .
( كدت أن أقولها له، لكنه سبقني وقالها لي ) مطر : لا تذهب بعيدا عن الحي ...
(تتماه رايات الموت مع سماء الحياة ، لتوحد السواد بالسواد ، لا فرق بينهما ففي قاع السواد بيوت سوداء وعبيد سود وجدران سوداء و أموال سوداء يشترى ويباع فيها الصمت ، فتكلفة الحروف باتت عالية ، وأعلى من تلك الرايات ومن تلك السماء بكثير ) ..
ذهبت أنا ، وبقي مطر وثيابه مبللة بدماء الضحايا ، يلف كوفية سوداء على رأسه كعجوز لا غفران له ولا سبيل لو كنت أعلم أنني سأراك لآخر مرة ... لودعتك بعنف ..
( كل شيء هنا يشبه الموت ، إلا الشاشات المربعة التي تضج بالألوان ،تعتقد أنها تعلم روايات موتنا أكثر منا ، وآلاف العقول المقتولة ، متأهبة لتصديق أي شيء رفضاً للحقيقة المرة ، مئة قاتلٍ يا مطر ، يزنون بهوية واحدة ، ويجتمعون على ضحية واحدة ، ولكل قاتل سبب وغاية ..)
طال الانتظار ، وكل السيارات كانت تأتي مسرعة ، إلا هذه فرآها مطر تمشي ببطيء يائس ، يسيل الدم من حوافها ويسقط ثقيلاً على التراب ، ركض مطر نحو المستوصف يفسح الطريق ، فتح باب السيارة فرأى وجهي ، بجسد دامٍ ونحر مذبوح ، شهق ليستعيد روحه التي كادت أن تفارقه ، صرخَ صمتَ صدمته فخانه صوته ، لم تسع دموعه الأرض سقطت الفاجعة مساميراً على صدره ، عجبي على رجلٍ ينوح كالثكلى .
جلس قرب جسدي يصب التراب على رأسه ، بال في بنطاله سنينه العشر ، اختلطت على بنطاله دمائي وسنينه ودموعه والبول ، لم يتعلم العد منذ زمن ، فجلس يعد على جسدي طعنات وجروح ، يحاول جاهداً أن يسد جروحي بيديه ، ولكنه لم يتعلم أن سد الجروح لا يحيي الموتى ولن يعيد الزمن إلى الوراء .
آخيت التراب ، ومطر جالس عند باب المستوصف ، ينتظر أن آتي مرة أخرى وأنا حي ، يبكي ويشد علي الجرح أكثر .
سقط جسدي ، وما زلت أعيش موتي وأكتبه قصيدة وما أقبح الحرمان ..
( ومع بزوغ كل موت على تلك المدينة السوداء، يخرج الموتى من قبورهم إلى موتهم ويعيشون به ، فالموتى كغيرهم يأكلون ويسكرون ويرقصون ويفرحون ويعشقون ويتناسلون ويحزنون ويقرءون الكتب لا بل يستخدمون الإنترنت أيضا ... )