syria.jpg
مساهمات القراء
قصص قصيرة
قطار ... بقلم : م فواز بدور

لا أعرف منذ متى وأنا أركب هذا القطار فكل ما أعلمه ومنذ زمن لا أذكره أنني انتقلت به  بين محطات كثيرة منها المفرح ومنها المحزن منها ما يسير فيها قطاري بكل يسر وسهولة ومنها ما يصارع لتجاوزها وكلما وقف في محطة نفارق البعض ونلتقي البعض الآخر


ولأنني حتى هذه اللحظة لا أدرك متى ستكون محطة نزولي أو أين فقد أسلمت أمر رحلتي للصانع العظيم فوحده من حدد لكل منا محطة الركوب كما حدد محطة النزول

 

ولأن من يعش يرى فقد رأيت حالات كثيرة لأناس كثيرين في هذا القطار , بعضهم لم يكد يصعد إليه حتى نزل منه وبعضهم كان  يركبه قبلي بزمن طويل وما زال فيه

 أشياء كثيرة تلفت النظر في هذا القطار  فلم يكن الجميع من جنس أو طيف أو لون واحد ولا تستطيع أن ترى ما يجمعهم لا اجتماعياً ولا أخلاقياً ولا سياسياً فما هم إلا مجموعة يجمعهم فقط  وجودهم معاً في نفس القطار

 

وبعض هؤلاء الركاب تراهم فرحين به مسرورين بكل مكوناته وبعضهم يزعجهم كل ما فيه

 بعضهم يؤثر بالقطار وبمن حوله وبعضهم يتأثر بكل ما حوله

 

 كما لم يكن الجميع يعيشون نفس الحالات ففي الوقت الذي كان بعضهم سعيداً كان بعضهم الآخر حزيناً وفي كل لحظة من مسير القطار تختلف أحوال ركابه فما من سعادة دائمة ولا حزن دائم

وفي الوقت الذي يركبه البعض بيسر يصارع بعضهم لركوبه كما يصارعون للبقاء فيه وبعضهم يجلس فيه مرتاحاً أما بعضهم فرغم محاولاته التمسك بكل ما أوتي من قوة لا يستطيع المحافظة على بقائه فيه

 

أناس كثيرون كانوا يغادرونه من غير أن يتركوا لهم أثراً في هذا القطار وقلة منهم ترى أثارهم باقية  في مقاعدهم التي كانوا يجلسون فيها وبعضهم في العربة التي كانوا فيها والبعض الآخر ترى أثارهم في كل القطار بالرغم  من أننا لم نقابلهم أو نراهم  أو نرافقهم برحلتهم كما لم تكن كل الآثار محببة قريبة إلى القلب فبعضها مزعج مسيء ترى كل الركاب يتذمرون منها ويلعنون أصحابها

 

ولست أدري منذ متى انتبهت إلى ذلك الرجل الرزين المهيب الجالس يتبادل أطراف الحديث مع بعض الركاب يمازح بعضهم ويهدئ من روع بعضهم وينصح بعضهم ويهدد ويتوعد بعضهم الآخر

 

ولكن ما أعرفه أنني منذ تلك اللحظة التي لاحظت فيها وجوده لم ارفع عيني عنه ورحت كعادتي أرقب بصمت وأسترق أطراف الحديث من غير أي ردة فعل ملموسة

ومما وصل إلى سمعي أو لنكون دقيقين مما استرقت السمع إليه حديثه مع رجل صعد القطار وهو يضع يده على عينه فسأله الرزين لما تضع يدك على عينك وتمنع نفسك من التمتع بما وهبك الله إياه

 

فأجابه الرجل إني يا سيدي لا أرى إلا بعين واحدة

فسأله أكان ذلك حادثاً أو مرضاً

فأجاب لا هذا ولا ذاك ولست ادري لذلك سبباً وكل ما أعرفه أنني أضع يدي على عيني لكي لا أرى إلا بتلك العين

فسأله فأين أوصلتك رؤيتك الناقصة

 

فقال أنت تقول عنها ناقصة وأنا وأسيادي نقول على الإنسان ألا يرى إلا الحقيقة والحقيقة لا ترى إلا إذا ركزت طاقتك واستفدت من كل قدرة النظر في عين واحدة

فسأله فلما وهبك الخالق عينين اثنين كما وهبك أذنين اثنتين كما وهبك يدين اثنين ورجلين اثنتين

ألا ترى أيها الجاحد أنك بطرت بنعمة ربك

 

قال كيف وأنا كل ما أقوم به هو للوصول إلى رضاه  فالعين الثانية هي العين الضالة  التي تشتت تركيزي عن العين الأولى التي استخدمها بالنظر إلى الصراط المستقيم ألا تغمض عينك الثانية إذا أردت النظر من خلال المكبرة للوصول إلى وضوح أكبر في الرؤية  فما فائدة المكبرة إذا لم تغلق عينك الأخرى

 

قال فمن قال أنك بحاجة إلى مكبرة

فأجابه بحدة هل رأيت مصلّحاً للأجهزة الدقيقة كالساعات وأمثالها يعمل بدون مكبرة فكيف وأنت تبحث عن الصراط المستقيم الذي إن ملت عنه قيد أنملة سقطت من عليين إلى أسفل السافلين

فسأله فهل وصلت إلى الصراط المستقيم

 

أجابه بثقة أجل واعلم أن ما من زوجين خلقهما الخالق إلا وجعل أحدهما للخير والثاني للشر فيدك اليمين لتأخذ كتابك بها  فانظر ما أنت فاعل بنفسك إذا كتب عليك أن تأخذ كتابك  بيدك اليمين فقمت بدلاً من ذلك بأخذه بيدك اليسرى فصرت من أصحاب الشمال ألا تحكم على ذاتك بالتهلكة ألا ترى أن حتى الملائكة الاثنين أحدهما لكتابة الحسنات والأخر لكتابة السيئات ألا ترى ضرورة تركيز النظر على بدائع الخالق بعينك الأولى والامتناع عن النظر إلى العورات والموبقات بالعين الأخرى ألا ترى أنك بإذن واحدة تسمع كلام الله والنبيين والمؤمنين والسلف الصالح وأنك لو استخدمت أذنك الأخرى لاستمعت إلى الأغاني وكلام الشيطان واعلم أنك برجل واحدة تمشي بطريق الصلاح والهدى ورجلك الثانية ستأخذك بطريق الغواية والضلالة وخير لك أن تقلع عينك الثانية وأن تصم أذنك الأخرى ولا تنسى أن تقطع يدك ورجلك إن أردت الوصول إلى النعمة الأبدية بعبادة خالق البرية

 

فنهض الرجل المهيب وقال استغفر الله العلي العظيم استغفر الله العلي العظيم استغفر الله العلي العظيم  اسمع أيها الكافر بكمال الله  أليس ربك العلي العظيم هو القائل  " وخلقنا الإنسان في أحسن تقويم  " فكيف سمحت لنفسك أو لغيرك بالتشكيك بحكمة الخالق حينما وهبك العينين والأذنين والرجلين واليدين , إن الخالق عندما أعطى الإنسان نعمه عليه جعلها الأكمل للعبادة  والمعيشة كما هي الأقدر على الوصول إلى رضاه فهل تستطيع أيها الجاحد أن تصلي بيد ورجل واحدة كما أن رؤيتك لنصف الأمور لا تجعلك ترى كل الحقيقة , إن الإنسان الصالح ليس من لم يرَ من الحياة إلا الجانب الذي يقوده إلى الصلاح بل هو الإنسان الذي يرى الجانب الذي يقود إلى الرذيلة  أيضاً فيرفضه بصفاء عقله ونقاء قلبه , هو الإنسان يسمع بإذنيه  ومن كل الأطراف فيصل إلى الحقيقة بإعمال فكره ,وهو الإنسان الذي يستخدم يديه لفعل الخير ولا يدعي عدم قدرته القيام بعمل لأنه لا يستخدم إلا يد واحدة , وهو الإنسان الذي يسعى برجليه في طريق الصلاح وما كان لرجل أن يستطيع التنقل برجل واحدة

 

وهنا وقف رجل لمحت فيه شموخ قاسيون ونقاء ماء الفيجة  ووفاء  حلب وذكاء حمص وعطاء الجزيرة  ومجد تدمر وقال للرجل لا شك أنك لست سورياً

فأجاب الرجل بوقاحة المنهزم الذي فقد كل شيء بعد المحاضرة التي تلقاها من الرجل الرزين  : نعم أنا سوريّ وأحب بلدي

 

قال إن السوريين تعلموا منذ فجر حضارتهم  , مذ كانت بلادهم مهد الديانات السماوية  , مذ وقفوا وحدهم حاملي لواء العروبة  , مذ معركة ميسلون  , مذ حرروا أرضهم  , مذ صنعوا نهضتهم وحريتهم  , مذ كانوا عرضة للمؤامرات أن يستخدموا كل ما منحهم إياه الخالق العظيم فالسوري يرى بعينيه ليختار طريقه ويسمع بأذنيه ليميز بين الحق والباطل ويستخدم كلتا يديه فيد للسلاح ويد للقلم ويستخدم رجليه  ليصعد إلى قمة المجد

 

فلاحظت  أن الرجل يرفع يده عن عينه و أن هناك دمعتين سقطتا منهما

 

فاقتربت منه وقلت له لما تبكي فقال . . . ما هما إلا دمعتين  . . . دمعة فخر أنني سوريّ   . . .  و دمعة على وطني الذي كدت أضيعه

 

2012-01-30
التعليقات
محمد جحا
2012-01-30 22:53:03
قطار السعادة
اتمنى لك ايها الاخ العزيز قطاراً مريحاً يقف بمحطات كلها امل وتفاؤل بمحطة قادمة احلى واسعد من كل المحطات التي سبقتها.

سوريا