syria.jpg
مساهمات القراء
مقالات
المؤامرة.. بين الإقرار والإنكار! ... بقلم : عياد عيد

(الأسلحة تصدأ, ومن المضحك تماماً أن تحارب بالسيف من يقصفك بالطائرات)  


بعد سنوات من الكسل الفكري, وهو صفة هامة من صفاتنا العامة, نجد أنفسنا مضطرين اليوم إلى الوقوف أمام الكثير من القضايا والمصطلحات التي ما كنا نكترث لها كثيراً, ولا نعدها من ضمن الأوَّليات.  

 

وكانت هذه المصطلحات تستخدم بنوع من عدم الاكتراث وضمن سياقات إنشائية مملة. ومن هذه المصطلحات (المؤامرة). إن هذه الطاقة الكبيرة التي اكتسبها مصطلح المؤامرة في ظل الأحداث الحالية هي أمر طبيعي جداً, فالكلمة دائماً يجب أن ترتبط بشيء محدد, أو بمفهوم محدد, لكننا كثيراً ما نردد في الظروف الطبيعية كلمات من غير أن نتوقف كثيراً عند الشيء أو المفهوم الذي ترتبط به. فمثلاً حين نستخدم كلمة (سيارة) لا نفكر بتعريف السيارة وما تتكون, وما هي وظيفتها. يكفي أن تتعطل هذه السيارة (وهذا وضع غير طبيعي) حتى نبدأ نفكر بالشيء الذي ترمز إليه, ونبدأ نغوص في مكوناته, ونسأل عن محرك الاحتراق الداخلي وعلبة السرعة والآلية الكهربائية وغير ذلك...  

 

وبالتالي فالوضع غير الطبيعي الذي نعيشه اليوم يجعلنا أمام قضية ملحة، وهي تحديد الموقف من المفهوم الذي ترمز إليه كلمة المؤامرة. فإن قلنا إن البلد يتعرض لمؤامرة خارجية فرح الموالون وطيبوا لنا. وإن قلنا هذه حجة بائسة, والمؤامرة هي من خلال المؤامرة مؤامرة على الشعب نفسه, هلل لنا المعارضون وعدُّونا من الذين يفهمون. والأطرف من ذلك أن المقتنعين بالمؤامرة من المعارضة يخشون الاعتراف بها كي لا يتهموا بالتواطؤ مع النظام, والرافضين لها من الموالين يخشون التصريح بعدم قناعتهم بها كي لا يضعوا أنفسهم موضع الشك.  

 

إذن, فنحن أمام معيار من معايير الاصطفاف والفرز. وهو معيار نفسي وانفعالي أكثر منه عقلاني أو منطقي, ولا يصح أساساً أن يكون معياراً. الأمر الآخر المهم هو ربط المصطلح بالسياق الواقعي الذي ينتج عنه, أي بالتفسيرات والتأويلات التي تلازمه وكذلك المبررات: لماذا يستخدم الموالون هذا المصطلح؟ ولماذا يرفضه المعارضون؟ وهذا يجعل مدلول الكلمة متغيراً بتغير الظروف.. وبالتالي يحق لنا أن نسأل:  

 

هل هذه المؤامرة التي نتعرض لها هي ذاتها التي كانت قبل أعوام, أو قبل عقود, أم أننا أمام شيء آخر مستجد؟ تُعرَّف المؤامرة بأنها اتفاق سري بين أطراف متعددة على القيام بأعمال مشتركة ضد شخص ما أو دولة ما، لأغراض سياسية أو اقتصادية أو غير ذلك. وبشيء من التحليل الموضوعي البعيد عن الانفعال سنكتشف أن ما يجري اليوم يطابق تماماً هذا التعريف, أي أن شروط المؤامرة محققة, وأخطر ما فيها هو سرية الاتفاق, فهذه الخصوصية في فعل المؤامرة تجعل من الصعب معرفة النوايا الحقيقية للمتآمرين, وما هي البداية في هذا الفعل, وأين تقع النهاية.  

 

وكثيراً ما يظن المتآمَر عليه أنه نجا منها, ليكتشف بعد فترة، قد تطول أو تقصر، أنه على العكس من ذلك تماماً قد انتقل إلى شرك آخر, وفصل آخر من فصولها. ولا يبقى للمتآمر عليه أمام هذه الحال سوى التخمين, والقراءة المتأنية لسير الأحداث, وتأويلها التأويل الصحيح. نظرية المؤامرة ليست ابتكاراً سورياً, وهي ليست الدولة الوحيدة التي يدور فيها هذا الجدل, فالمطلع على الأحداث التي جرت في أثناء البيريسترويكا، ومن ثم في العديد من البلدان الأخرى كيوغسلافيا مثلاً أو فنزويلا أو كوبا، سيلحظ بسهولة هذا الاصطفاف من هذا المصطلح. فمن جهة تصر القوى السياسية الحاكمة على فعل المؤامرة, يقابلها من جهة أخرى نوعان من ردود الأفعال: غضب وسخط أو سخرية، حتى إن أحد الكتاب الروس كتب مقالة بعنوان: (كيف تسخر جيداً من كلمة المؤامرة). تجدون لدينا أيضاً اليوم من ينفجر غضباً في وجهك, أو يبتسم ساخراً: (أليس لديكم غير هذا الكلام؟!). كان الفنان اللبناني زياد الرحباني من أوائل من عبروا فنياً عن مثل هذه الحالة النفسية في مسرحيته (فيلم أمريكي طويل)، فقد دفعت كلمة المؤامرة بإحدى شخصيات المسرحية إلى الجنون, ولم يجد الطبيب النفسي (العاجز عن تفسير المؤامرة إلا بكلام سطحي يتردد يومياً على لسان الزعماء وفي الصحف اليومية) سبيلاً لمعالجته إلا بالجلسات الكهربائية والأدوية المهدئة.  

 

قد يبدو للوهلة الأولى أن التكرار الميكانيكي الرتيب لهذه الكلمة هو ما ينفر الناس منها ويجعلهم يبدون ردة الفعل العالمية هذه, لكن الحقيقة ليست كذلك تماماً. فمن يرفض المؤامرة لا يرفض المفهوم بحد ذاته, بل يرفض التكلفة الباهظة وغير العادلة التي يضطرهم إلى دفعها. كانوا يقولون لنا (اصمتوا! البلاد تتعرض لمؤامرة ولا مجال الآن للحديث عن هذه القضية أو تلك). (هذه العبارة كانت تتردد أيضاً على لسان بعض قيادات الحركة الشيوعية حين كانت تعلو بعض الأصوات المطالبة بمناقشة مسائل تمس القوى الشيوعية). المشكلة هي في من تبنَّوْا هذا المفهوم, ولهذا الأمر جانبان:  

 

الأول هو الطابور الخامس (قوى الفساد, وبعض النخب, وغيرهم) الذي كان يتستر وراء إسكات الناس لإعمال اللعب من تحت الطاولات. والثاني هو الفهم الخاطئ لطبيعة (المؤامرة) ذاتها. لا شك في أن الجانب الأخير يحتاج إلى مزيد من البحث, لكننا نستطيع أن نشير إلى قضية محورية وهي أن نمط التفكير الذي كان سائداً هو أن المؤامرة الأساسية هي أمنية بالدرجة الأولى, أي جواسيس وعملاء ومأجورون... وما شابه.  

 

وربما تبرر الأحداث التي شهدتها سورية منذ أواخر السبعينيات حتى ما بعد منتصف الثمانينيات هذا التفكير. ولأن القناعة بأن المسؤول الأول المطلق الصلاحيات في التصدي للمؤامرة هو الأجهزة الأمنية وبالتالي ينبغي أن تضع يدها على كل شيء. لكن هذه القناعة تغفل جانباً مهماً هو أن المسألة ليست محصورة فقط في الجواسيس وأجهزة المخابرات العالمية المعادية, ولا في العملاء والمأجورين, وحتى ليست في الجانب الاقتصادي أيضاً. بل تتعدى ذلك إلى مسألة أخطر من ذلك بكثير وهو الثقافة والعملية المعرفية ككل. وهذا يحيلنا إلى العديد من الأسئلة التي تجعلنا نشكك حتى بمقدرة مصطلح المؤامرة بالأساس على توصيف ما نتعرض له. لقد طور الغرب منذ بداية القرن الماضي تكنولوجيات هائلة, وراكم معرفة ضخمة في العلوم الإنسانية، وتحديداً في علم النفس الاجتماعي. وعلينا أن نعترف بأن أفضلية الغرب الكبرى علينا في أنه يعرف قيمة الثقافة جيداً, وليس المقصود بالثقافة هنا قراءة الكتب والتعلُّم, بل هي فهم العالم والقوانين التي تسيره من جهة, وفهم موقع حامل هذه الثقافة من هذا العالم من جهة أخرى, وبالتالي يصير حتى الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة حاملاً لثقافة معينة تتجلى بتحديد موقعه من الأشياء والمجتمعات التي تحيط به.  

 

وفي ظل غياب الحراك الثقافي الذي ينتج هوية وقيماً ويساعد على تحديد موقعنا مما يجري في العالم تكون ساحة المعركة خالية إلا من طرف واحد. لقد أدى وضع اليد على الثقافة عندنا (إضافة إلى أشياء كثيرة أخرى, كالاقتصاد مثلاً) إلى وصولنا إلى حافة الهاوية. وما يثير الاستغراب أكثر من كل شيء حين يسألونك عن دور المثقف في هذه الأزمة, عوضاً عن أن يجيبوا عن أين كان المثقف قبل الأزمة؟ نستطيع نحن أن نجيب: كان إما يتسول على أبواب صحف الخليج والصحف اللبنانية, أو يعمل أعمالاً حرة تصل إلى بيع الخضار. طبعاً, لم يكن النظام وحده هو من وضع اليد على الثقافة عندنا, بل كانت هناك قوى أخرى ساهمت في تعطيل هذه العملية، منها دينية ومنها علمانية. خلاصة القول إن ما نتعرض له اليوم هو أكبر من مؤامرة. إنه تهديد لوجودنا جميعاً, إنه تهديد من أناس فقدوا صفة البشر، ولا يهددون سورية وحدها، ولا العرب وحدهم، بل الإنسانية جمعاء. لكن أسوأ ما في الأمر حين تواجه المؤامرة بمؤامرة.

 

2012-02-07
التعليقات