التفتَ وراءه بَعْد أن رأى يدًا سوداءَ تُرَبِّتُ على كتفَيْه، وتقول له: "انْهَض"، فرأى أنَّ صاحب هذه اليدِ السوداء هو اللَّيلُ، الذي أخذ يرمُقُه ويَنْظر إليه بابتسامةٍ وديعة، أقرب ما تكون إلى الضَّحِك، ورأى أنَّ على جِيد اللَّيل عِقْدًا مُتناثرًا من اللُّؤلؤ والجُمَان تزين به ذلك الجِيد..
ثُمَّ نهضَ من فراشه، وأبَى إلاَّ أن يقضَّ مضجعي معه، ولعلَّكم إلى الآن تتَساءلون: مَن هذا؟ ....فيأتي الجواب: إنَّه القلم.
وبسرعةٍ خاطفة، وأنا لا أزال في حالةٍ من الذُّهول عن الواقع، أحسَستُ كأنَّ الليلَ قد امتشقَ القلم سيفًا، وأخذَتِ الأحرفُ تتَوالى إلى ذهني زرافات ووحدانًا، ولَم أشعرْ إلاَّ والكلماتُ تَنْساب من خاطري مُتَناثرةً على الأوراق كحبَّاتِ مطرٍ تنهمرُ فوق أرضٍ عَطْشى، ثم تَجْتمع في ثرى فِكْري, فتُنْبِتُ بساتينَ ذاتَ بهجة, وأزهارًا فاتنةً من الجمال البديع, كلماتٍ تلوَّنَت بألوانٍ شتَّى، ثُمَّ تحوَّلت إلى خواطرَ طُلِيَتْ بلونٍ فاحمٍ أسودَ؛ لأنَّها كُتبت عندما سجَّى اللَّيل، وأرخى سُدُولَه، وتجلبَبَ بالدَّياجير، وبِيَراعٍ انتزعته من سويداء قلبي، وبِمداد من دمي...
فكانت الخواطر كالتالي:
• تخيَّلْ معي أنَّ الوجودَ لا ليلَ فيه! ليتَ شِعري! فماذا يَفْعلُ العابدون المُناجون ربَّهم بالأسحار؟ وفي أيِّ وقتٍ سيُناجي العبدُ خالقَه بلسانٍ ذاكِر، وقلب خاشع ذليلٍ, بعيدًا عن أعين الرُّقباء؟ وفي أيِّ وقت كان المتأمِّل المفكِّرُ في ملَكوت السَّموات والأرض سيَشْعر برهبة السُّكون، وظُلَم الدَّياجي الحالكة؟ وبأي غطاءٍ - لولا اللَّيلُ - سيتدثَّرُ العُشَّاق؟
ومن سيسامرُ الحزين المكلوم في السَّهر، ومع مَن سيتبادل المُؤَرَّقُ أحاديثَ الهمِّ والأسى؟ ومن ستُناجي الثَّكلى التي فقدَتْ وحيدها؟ ومن سيصغي إلى أحاديث الأيِّم التي غُيِّبَ زوجُها تحتَ أطباق الثَّرى، وها هي الآن تعيش مع أطيافِ ذِكْراه؟
وعلى كلِّ حالٍ، تمرُّ علينا أوقاتٌ غيرُ اعتياديَّة، لا فرقَ فيها بين ليلٍ أو نَهارٍ، ولا غيابٍ ولا إشراقٍ، ونُردِّد مع امرئ القيس:
ألا أيها الـليلُ الطويل ألا انجلي
بصبحٍ ,وما الإصباحُ منكَ بأمثلِ
• قل لي يا أخي: هل هربَ الكرى من جفنَيْك يومًا، وبحثتَ عنه مليًّا فلم تَجِدْه؛ لأنَّه كان متخفِّيًا في دياجير العَتمة؟! هل مرَّ عليك وقتٌ ولَم تشعر فيه بليلٍ ولا بنهار؟ وإذا حصل معك ذلك، فهل تذكَّرتَ قوله تعالى في سورة الإسراء: ﴿ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ [الإسراء: 12].
هل تقفُ معي لِتَنظرَ إلى السِّباق الَّذي لا يَنْتهي إلى يوم القيامة: ﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [يس: 40].
• كم من أمرٍ شغَلني، وكم مِن مصيبةٍ أهَمَّتْني، وكم من خَطْبٍ أرَّقَني، وكم من همٍّ أقضَّ مضجعي، وكم جفا النومُ جفوني، وكم من كربٍ أقلقني! فأتاني فرَجُ الله من حيثُ لَم أحتسب، وجعل الله بعد عُسر يسرًا، وجال في خاطري قول الشَّاعر:
ضاقت فلــما استحكمت حلقاتُـهـا
فُـرجـت , وكنـت أظـنهـا لم تفرجِ
• يأبَى التاريخُ إلاَّ أن يُسجِّل في أعلى صفحاته الذهبيَّة أسماءَ كثيرٍ من العُظَماء والمبدعين، ولكنَّ التاريخ لا يُنصِف في كثيرٍ من الأحيان؛ لأنَّ كثيرًا ممن يستحقُّون أن يُذكَروا في صفحاته الذهبيَّة أصبحوا نسيًا منسيًّا، وطوَاهم في غياهب المَجْهول، كما أنَّ التاريخَ ذكرَ في تلك الصفحات الذهبيَّة أسماء كثيرٍ مِمَّن شوَّهوا تلك الصفحاتِ ودنَّسوها؛ وذلك لما تحملُ أسماؤُهم من جحافل الخزي والعار، فكان حريًّا بالتَّاريخ أن يكنس أسماءَهم من صفحاته؛ حتَّى تُحافظَ على رونقها وصفائها، وتَبْقى غايةً في البهاء والجمال، لا تَشوبُها شائبةٌ، ولا تُدَنَّسُ بأسماء المفسدين فيها.
وكثيرًا ما أقول بيني وبين نفسي: حتَّى لا نظلمَ التاريخَ، لماذا لا نقسمه في كتبنا إلى شطرَيْن: تاريخ العظماء، وتاريخ الأدعياء؟! فليست النَّائحةُ كالثَّكْلى، وما يَسْتوي الأعمى والبصير.
• عجبًا لك أيُّها المتكبِّرُ! أنسيت ماضيَك؟ أنسيت أنك خُلقت من تراب، ثم من نطفة، ثم أصبحت رجلاً؟ أم باعتقادك أنَّك لَم تكن وليدًا تُحمل على الأكُفِّ؟! فتذكر أيضًا أنَّك عِندما تموت ستُحمَل على الأَكُف!
أنسيتَ - أيُّها المسكينُ - أنَّك أنت نفسَك الذي كنت تَحْبو مُلاصِقًا للأرض، ولا تستطيع أن تنهض، وكلَّما حاولتَ أن تنهض تعثَّرْتَ من جديد؟ أمَا مرَّ عليك أنَّ المتكبِّرين سيُحشَرون يوم القيامة أمثالَ الذرِّ يطَؤُهم الناس بأقدامهم؟ بالله عليك قل لي: لماذا تَمْشي وقد لَوَيتَ عنقَك، وشمختَ بأنفك؟ أم هل أصابك داء الصُّعارِ الذي يُصيب الإبل؟ إذا كان كذلك، فتذكَّرْ قولَه تعالى على لسان لقمان: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ﴾ [لقمان: 18].
• مِن أصعَبِ مواقف الحياة أن تَعْلم الحقَّ، ولكنَّك لا تستطيع أن تنطق به، وأن تَسْكت عن الباطل وأنت تتألَّم وتتحفَّزُ تَحَفُّزَ الليث، وأن تشاهدَ الحقيقة بأمِّ عينك، ولكنك تصبحُ أمام نفسك شاهدَ زور، وأن ترى أنَّ أنصار الباطل أكثر من أنصار الحقِّ, بل ربَّما لا تجد للحقِّ أنصارًا!
لكنْ، لا تتعجَّب - يا صاحبي - ولا تُحمِّل نفسك ما لا تطيق، فما هي إلاَّ لحظاتٌ وتزولُ الحياة، وتعود الأمور إلى موازينها ونِصَابِها, ولا يظلمُ ربُّك أحدًا.
وكرِّرْ معي قول إقبالٍ مُناجيًا ربَّه:
لكَ فـي البـرية حكمـةٌ ومـشيئةٌ
أعـيت مـذاهبٌها أولـي الألباب ِ
إن شـئتَ أجريتَ الصحارى أنـهُراً
أو شـئـتَ فالأنـهارُ موجُ سرابِ
ثُم اعلم - حتَّى تريحَ ضميرك وفؤادَك وتطمئنَّ - أن كلَّ شيءٍ مُقدَّر، فكَرِّر معي أيضًا قول الشاعر:
أرح فـؤادَك مــن هَمِّ الوجوداتِ
وارجع إلى الله عن مـاض وعـن آتِ
• لا أظنُّ أن إنسانًا أغدق الله عليه العطايا والمِنَن، وأمطَرَه بوابل نِعَمه كما أغدقَ عليَّ، ولا أظنُّ أنَّ إنسانًا قابلَ إحسانَ الله بالإساءة كما قابلتُه! فاللَّهم مغفرتك أوسَعُ من ذنوبي، ورحمتُك أرجى عندي مِن عمَلِي.
• عينٌ طالَما نظرَتْ إلى المُحرَّمات حريٌّ بها أن تجريَ دمًا، ولسانٌ طالَما وقع في أعراض النَّاس حريٌّ به أن يظلَّ أبْكمَ، وأذن تتحسَّس، وتتبع سوءاتِ الناس حريٌّ بها أن تظلَّ صمَّاءَ، ولُبٌّ لا يردع صاحبه عن اتِّباع الهوى حريٌّ به أن يَهْوِي بصاحبه في مهاوي الضَّلال.
• لست أدري لماذا كلَّما قرأتُ سورةَ يوسفَ، وتدبَّرتُ فيها؛ فإنَّ هذه الآية تستوقِفُني كثيرًا: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39]؟ وكذلك قوله في سورة المدثر: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ﴾ [المدثر: 11]، وكذلك قول تعالى في سورة الزُّمَر: ﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ﴾[الزمر: 56].
وهناك آيةٌ في كتاب الله تَحْتاج منك إلى جوابٍ قبل فوات الأوان، فهَيِّئ نفسك للإجابة، وإذا لَم تُعِدَّ جوابًا إلى الآن فبادِرْ إلى جواب فِعْليٍّ وقولي؛ لأنَّك إذا لم تُعِدَّ جوابًا فسوف تكون من الخاسرين، قال تعالى في سورة الحديد: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الحديد: 16]؟ فقل: آنَ الأوان يا ربَّاه.
• أخي: تذكَّر دائمًا أنَّ مع العسر يُسرًا، وأنَّ الفرَج بعد الشِّدة، وأنَّ الله فعَّالٌ لِما يُريد، وأنَّ الأقدار تَجْري علينا؛ شِئْنا ذلك أم أبَينا، وأن التوكُّل على الله غيرُ التَّواكل، وأن الظنَّ غيرُ اليقين، وأنَّك لا تدري متَى سوف يُقال عنك: رَحِم الله فلانًا، أو يُقال: الحمد لله الذي أراحنا مِن فلان! فلَك ذِكْران؛ ذِكْر في الحياة، وذِكْر بعد الممات، وكُنْ كما قال أحمد شوقي:
فارفع لنفــسك بعد موتكَ ذكرَها
فالـذكرُ للإنـسـان عـمـرٌ ثان ِ
أرى أنَّ قلمي بدأ يتثاءَبُ، وأحرُفِي تكاد تذهب في سُباتٍ عميق، وها هي كلماتي تُغمض عينًا وتفتح أخرى، فلْتَلتحِفْ كلماتي وأحرفي وقلمي بلحافٍ ورقِيٍّ أبيضَ قبل أن تأخذها سِنَةٌ أو نومٌ، ولْنُودِّعْ معًا هذا الليلَ؛ لننتظرَ - إن شاء الله - بزوغ فجرٍ جديد، وصبحٍ يتنفَّس، وشمسٍ يُشرقُ مع إشراقها الخيرُ والبركة والسلام؛ ليعُمَّ الناسَ أجمعين.
مقال رائع لم نسمع بمثله من ذي قبل الله يكثر من أمثالك ويقدرنا ان نعمل بالكلام الجميل الذي كتبته
كلماتك أخ عباس تعبر عن روح شفافة صادقة مفعمة بحب الله وتقدير نعمه على الانسان , اسلوبك هادىء وجميل ولغتك تعابيرها تمس الوجدان . فنعم بالله الخالق والقادر . وكما قلت هناك الكثير ممن يستحقون أن يرمى بهم على قارعة التاريخ فهم لا يستحقون الااللعنة والاحتقار .تمنياتي لك بالتوفيق .