لا يزال الباحثون والسياسيون والمؤرخون، يدرسون التغيرات السياسية والاجتماعية، التي انطلقت من تونس وهبَّت على المنطقة. وكانت رسالة هامةلثقافة التغيير، كبديل عن ثقافة تسيّس الشباب، أو ثقافة (التبعية) إلى النظام العربي الرسمي، وذلك لتحطيم إرادة التغيير، بهدف تجميع قدرات الشباب وإمكاناتهم وطاقاتهم، في تنظيمات متعددة التسميات، تحت عناوين كبيرة من الإغراءات (الذهبية) وتأمين المستقبل، في العمل والسكن والبعثات الخارجية وغيرها.
لقد طرأ تحوّل كبير جداً في ثقافة التغيير، فانتقلت
من الهمس في الجامعات والغرف المغلقة،ومن التنظير الشفهي والنشر المموّه بالرموز في
الصحف والندوات الثقافية والفكرية والنشاطات الإبداعية، إلى الشارع.
وأوَّل ما يتبادر إلى ذهن المتابع والمراقب للشارع السياسي العربي، من مختلف
الاتجاهات والانتماءات الفكرية والمستويات الاجتماعية، أن التغيير بدأ من القاعدة
الديمغرافية العريضة، التي تشكّل نسبة 50 في المئة من السكان، البالغ عددهم ما يزيد
على 360 مليون نسمة. وهؤلاء يمثلون شباب الأمة في جميع مكوّناتها وتعددية
انتماءاتها الفكرية والسياسية والقومية، ووجود نسبة كبية من الوطنيين المستقلين.
وبعد عقود من ممارسة النظام العربي الاستبداد المنظَّم، ومحاولة احتواء جيل الشباب
بالترغيب وتقديم الإغراءات المادية، واستخدام العصا الغليظة والتخويف والترهيب،
باعتبار الشباب هم الأكثر نشاطاً وتقبّلاً للتطور، والأكثر حيوية وعطاء وقُدْرة على
اختراق المألوف والتمرّد على الواقع. وكل هذه الأمور في ظلّ ثورة الاتصالات، قد
سرَّعت في إنضاج الحراك السياسي- الاجتماعي، وأشعلت الساحات العربية بالهتافات
والشعارات التقدمية الديمقراطية السلمية.
ويمكننا القول إن هذا الحراك في بدايته، كان أقرب إلى العشوائية وغير منظم، وذلك
لوجود تعددية في الآراء واتخاذ المواقف الدالة على ضعف التجربة السياسية من جهة،
ومحاولة الأجهزة الأمنية القمعية تفريغها من مضمونها الديمقراطي التقدمي من جهة
ثانية، والتمادي في وصفها (بالأعمال التخريبية) رغم الدعوة للسلمية. وهذه السلمية
هي التي شكَّلت نقطة جاذبة للجماهير والقوى السياسية الوطنية والتقدمية واليسارية،
ومشاركة الطيف الوطني العربي الواسع، الرافض بقوة للعنف والتدخل الخارجي، والدعوة
إلى الحوار الديمقراطي الذي هو الأساس في التغيير الشامل، ضمن معادلة (أن الخلاف
يؤدي إلى المواجهة، وأن الاتفاق هو نتيجة طبيعية للاختلاف).
وفي ضوء هذا الحراك والتغيير، لم يفاجأ أحد بأن التسونامي سيضرب شواطئ الخليج
العربي. وذلك لاستكمال المسيرة التي بدأت في المغرب العربي، لتنتهي في أطراف
الجزيرة العربية، من خلال البيان الذي بثّ عبر وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية
العربية، الذي توّج حراكاً مستمراً منذ شهور في المنطقة الشرقية.. ويبشّر البيان
الذي جاء بعنوان: (رسالة الشباب السعودي بخصوص ضمان الحريات وأدب الاختلاف) وقَّع
عليه أكثر من 2400 شاب وشابة. وهذه بعض فقرات منه:
*نحن الشباب المسلم نرفض الوصاية الأبوية، التي تحجر علينا في ممارسة حقنا في
التفكير والبحث. فنحن نستطيع أن نستمع إلى الجميع، ونحكم بأنفسنا دون وصاية لا تثق
بعقولنا، وتدَّعي التخوّف من أن يتم التغرير بنا.
* إن ما شهدناه في الفترة الماضية بين أبناء وقيادات المجتمع، ومختلف تياراته من
صراعات حادة وسجالات مستمرة واستعداء، لا يسر إلاَّ من يقف عقبة في طريق التنمية
والإصلاح، ولا يصب في مصلحة الوطن.. وعودة ثقافة التحريض التي ما زال يمارسها
البعض، ضد من يختلف معهم فكرياً والسعي لإلغائه والتحريض عليه سياسياً وأمنياً
والتشكيك، في ديانته ووطنيته ولا يبشر بخير.
* أشارت الرسالة إلى أن الجيل السابق، عاش في متاهات هذه الصراعات التصفوية
المتناحرة، والتي كان يسعى فيها كل تيار، إلى إلغاء التيار المخالف له بكل الوسائل
غير الأخلاقية، الأمر الذي أدى إلى انحراف الخطاب الديني والثقافي عن القضايا
الجوهرية الكبرى، التي تهم وتلامس مصلحة الوطن والمواطن، وانزلق إلى قضايا جزئية
حزبية فئوية ضيقة.
* نحن الجيل الشابي اليوم نستنكر ونرفض بشدة عودة هذه الثقافة الإقصائية التحريضية،
التي لا تؤمن بالتعددية والحرية المسؤولة والمجتمع المدني، والوطن الواحد الذي يسع
ويحتوي الجميع بكل ألوانهم وأطيافهم.
وحثَّت الرسالة الشباب السعودي على ترسيخ قواعد الاختلاف والنقد النزيه، من تحويل
المواقف إلى صراعات شرسة، تهدف إلى إسقاط المخالف وتخوينه، ومواجهة الأفكار
بالأفكار والمشاريع بالمشاريع، مع حفظ حق الجميع في تأسيس مشاريعهم أياً كانت، وحفظ
حق المخالف في إبداء رأيه من وصاية أو محاولة فرض الآراء.