syria.jpg
مساهمات القراء
مقالات
حقيقة كبرى فارس بك الخوري... بقلم : وفيق الهوشي

لن أعاتب ولن أتحامل على الذين قصروا بحق الشخصيات الوطنية ورموا بالنقاط المضيئة في تاريخنا المعاصر في سلة المهملات لا لشيء إلا لأسباب يحسبون أنها خفية على الناس.
ما يهمني هو إعادة تسليط الضوء على النقاط المضيئة ودفعها إلى أمام وكشف النقاط الخلبية التي حاول البعض أن يضعها في مقدمة وصدارة تاريخنا المعاصر.


إلى كل من يريد الحقيقة ويريد معرفة الحالة الوطنية في مجتمعنا السوري منذ بدايات القرن العشرين فإنني أقول له أن هناك شخصيات وطنية تستحق التقديس لما قدمته لسوريا ومن بين هذه الشخصيات الأميز والأكثر أثراً في تاريخنا المعاصر هو:
السيد فارس بك الخوري


فارس بك الخوري من أرقى وأعظم شخصيات القرن العشرين بالنسبة لسوريا لقد كان لتصرفاته وسرعة بداهته دوراً كبيراً في رسم السياسة الخارجية السورية والتي أعتبر أن سياستنا الخارجية في جميع مراحل الحكم في سوريا استندت على ما تركه ذلك الرجل العظيم من تراث وطني لا غبار عليه لم يهتز أمام العواصف والنوائب ووقف وقفة الرجال العظماء وحقق لسوريا الاستقلال بحنكته وتصرفاته الذكية.
ولنسأل أنفسنا أين هو في ثقافتنا وتاريخنا؟
ما هو ترتيبه إن وجد له مكان؟

لماذا أبعد عن الواجهة؟
وهناك طبعاً غيره من الشخصيات الوطنية في المفاصل الكبرى من القرن الماضي أيضاً لم تأخذ حقها بقصد أو غير قصد!


من تصرفات وأفعال السيد فارس بك الخوري المتميزة:


1- كان فارس الخوري متجرداً في أحكامه، عميقاً في تفكيره، صائباً في نظرته، وقد جره هذا الإنصاف لأن يقول عن (الإسلام) الذي درسه وتعمق فيه أنه محققاً للعدالة الاجتماعية بين بني البشر. فمن أقواله في الإسلام: (.. يمكن تطبيق الإسلام كنظام دون الحاجة للإعلان عنه أنه إسلام). ـ (… لا يمكننا محاربة النظريات الهدامة التي تهدد كلاّ من المسيحية والإسلام إلا بالإسلام). ـ (… لو خيرت بين الإسلام وبين الشيوعية لاخترت الإسلام). ـ (… هذا هو إيماني. أنا مؤمن بالإسلام وبصلاحه لتنظيم أحوال المجتمع العربي وقوته في الوقوف بوجه كل المبادئ والنظريات الأجنبية مهما بلغ من اعتداد القائمين عليها


2-فارس الخوري وبشهادة من عمل معه كان وطنياً مخلصاً يعشق سوريا, فبعد دخول الفرنسيين دمشق, هرب معظم الوزراء والنواب في حكومة فيصل, ولكن  الخوري قال: "نحن أهل البلد, ومن العار أن نتخلى عن مسؤولياتنا قبل أن يأتي من يتسلمها منا حسب الأصول".  وهكذا بقي بعضهم حتى نزل الجنرال الفرنسي غورو في قصر المهاجرين في آب 1920  .. وقد أقيمت مأدبةٌ في القصر حضرها وزراء ثاني حكومة شكلها الفيصليون وعدد كبير من وجهاء المدينة.


أخذ غورو القائد الفرنسي يمتدح منظر دمشق وغوطتها أثناء الطعام، ثم أجال نظره في القاعة، وكأنه أراد الاستخفاف بالملك فيصل فقال: "أهذا هو القصر الذي سكنه فيصل؟" فأجابه فارس: "نعم، يا صاحب الفخامة، هذا هو القصر الذي سكنه الملك فيصل، وقد بناه والٍ عثماني اسمه ناظم باشا، ثم حلَّ فيه جمال باشا، ثم الجنرال ألنبي، والآن تحلونه فخامتكم. وجميع من ذكرتُهم أكلنا معهم في نفس القاعة، وكلهم رحلوا، وبقي القصر وبقينا نحن".... 

 

سمع الجنرال غورو هذه العبارة فصمت، ووجم كل من كان حول المائدة، ولم ينطق أحد حتى انتهاء المأدبة. وكان الشيخ تاج الدين الحسيني عضو المؤتمر السوري آنذاك – والذي أصبح رئيسا لسوريا في سنوات لاحقة - حاضرا,  فقال لفارس بعد الحفلة: "منذ هذا اليوم انتحرت، ولن تقوم لك قائمة مع الفرنسيين", فيجيب فارس: "وأنا أيضًا لم أرغب أن تقوم لي قائمة، وإنما هي معركة ولن تنتهي حتى يرحلوا."


3-انتخب فارس الخوري رئيساً للمجلس النيابي السوري عام 1936 ومرة أخرى عام 1943، كما تولى رئاسة مجلس الوزراء السوري ووزيراً للمعارف والداخلية في تشرين أول عام 1944... وكان لتوليه رئاسة السلطة التنفيذية في البلد السوري المسلم وهو رجل مسيحي صدى عظيم فقد جاء في الصحف: "مجيئه إلى رئاسة الوزراء وهو مسيحي بروتستانتي يشكل سابقة في تاريخ سورية الحديث بإسناد السلطة التنفيذية إلى رجل غير مسلم، مما يدل على ما بلغته سورية من النضوج القومي، كما أنه يدل على ما اتصف به رئيس الدولة من حكمة وجدارة).


4-في عام 1945 ترأس فارس الخوري الوفد السوري الذي كُلّف ببحث قضية جلاء الفرنسيين عن سوريا أمام منظمة الأمم المتحدة، التي تم تأسيسها في نفس العام، حيث اشترك الخوري بتوقيع ميثاق الأمم المتحدة نيابة عن سورية كعضو مؤسس.
وقد ألقى الخوري خطبة في المؤتمر المنعقد في دورته الأولى نالت تقدير العالم. حيث أبدى فيها استعداد بلده سورية والدول العربية لتفاهم متبادل، وأظهر تفاؤله في إمكانية تحقيق الفكرة السامية التي تهدف إليها المنظمة العالمية. وبناء على جهوده فقد منحته جامعة كاليفورنيا (الدكتوراه الفخرية) في الخدمة الخارجية اعترافاً بمآثره العظيمة في حقل العلاقات الدولية.


5-من مواقفه المشهورة أنه دخل إلى الأمم المتحدة بطربوشه الاحمر وبدلته البيضاء الانيقة... قبل موعد الاجتماع الذي طلبته سوريا من اجل رفع الانتداب الفرنسي عنها بدقائق, واتجه مباشرة إلى مقعد المندوب الفرنسي لدى الأمم المتحدة وجلس على الكرسي المخصص لفرنسا.. وبدأ السفراء بالتوافد إلى مقر الأمم المتحدة بدون اخفاء دهشتهم من جلوس 'فارس بيك' المعروف برجاحة عقله وسعة علمه وثقافته في المقعد المخصص للمندوب الفرنسي، تاركا المقعد المخصص لسوريا فارغا... دخل المندوب الفرنسي، ووجد فارس بيك يحتل مقعد فرنسا في الجلسة... فتوجه اليه وبدأ يخبره أن هذا المقعد مخصص لفرنسا ولهذا وضع أمامه علم فرنسا، وأشار له إلى مكان وجود مقعد سوريا مستدلا عليه بعلم سوريا ولكن فارس بيك لم يحرك ساكنا، بل بقي ينظر إلى ساعته.. دقيقة، اثنتان، خمسة...

استمر المندوب الفرنسي في محاولة 'إفهام' فارس بيك: يا حبيبي، يا روحي، مونامور، مون شيري.. هون محل كرسي بتاع فرنسا، محل كرسي بتاع سوريا هنيك، سيلفوبليه قوم انقلع من هون بدنا نقعد و لكن فارس بيك استمر بالتحديق إلى ساعته: عشر دقائق، احد عشرة، اثنا عشرة دقيقة و بدء صبر المندوب الفرنسي بالنفاذ: يا .... قوم انقلع يا عربي يا متخلف هون مطرح فرنسا الحرة, ولكن فارس بيك استمر في التحديق بساعته، تسع عشرة دقيقة، عشرون، واحد و عشرون... واهتاج المندوب الفرنسي، ولولا حؤول سفراء الامم الاخرى بينه وبين عنق فارس بيك لكان دقه.. وعند الدقيقة الخامسة والعشرين، تنحنح فارس بيك، ووضع ساعته في جيبه، ووقف بابتسامة عريضة تعلو شفاهه وقال للمندوب الفرنسي: سعادة السفير، جلست على مقعدك لمدة خمس وعشرين دقيقة فكدت تقتلني غضبا... سوريا استحملت سفالة جنودكم خمسا وعشرين سنة، وآن لها ان تستقل....  في هذه الجلسة ، نالت سوريا استقلالها.


6-انتخب فارس الخوري عضواً في مجلس الأمن (1947ـ 1948)، وأصبح رئيساً له في آب 1947 .
إضافة الى اهتمامه بسوريا اهتم الخوري بالقضية الفلسطينية، وأكد رفض الدول العربية إقامة دولة لليهود فيها. كما شرح القضية المصرية وطالب بجلاء الإنجليز عن أراضيها، وأكد على السلام العالمي، وحذر من وقوع حرب ذرية مدمرة. ولطالما ضجت هيئة الأمم بخطبه ومناقشاته باللغة الإنجليزية من أجل القضية العربية, وكانت خطبُه قبيل نكبة فلسطين لا تُلقى فقط أمام الهيئات الرسمية الدولية وامام منصات الامم المتحدة, بل كان ايضا يرتجل الخطب أمام الأندية والمعاهد في الولايات المتحدة واوروبا.


7-من قصص فارس الخوري:
-      كان فارس الخوري يتنزه في احد الأسواق المصرية فدخل إلى دكان يبيع الطرابيش وكان معروفا عنه لبس الطربوش الأحمر قال للبائع: أريد طربوش, فجلب له البائع اكبر طربوش عنده, سأله فارس الخوري كم ثمنه, قال البائع رقم كبيرا وكان البائع قد عرف أن الشخص الذي أمامه غير مصري.. قال فارس الخوري انه غالي جدا, قال البائع تبرم مصر كلها ما بتلاقي طربوش اكبر من هالطربوش, قال فارس الخوري: تبرم العالم كله ما بتلاقي راس اكبر من هالراس,   فنظر البائع إليه وقال له هذا هدية مني لكن أريد أن أتعرف إليك أجاب فارس حضرتي رئيس وزراء سوريا.


-       سأله مرة أحد الصحفيين قائلا: لقد عشت حياة طويلة عريضة فما برأيك أهم ثلاث أمور في حياة الإنسان عليه أن يسعى اليها؟ فأجاب فارس الخوري أولا الصحة وثانيا الصحة وثالثا الصحة واليك بهذا المثال, 
إذا كنت تتمتع بالصحة سجل لنفسك واحد فقط (1 ) فإذا جاء العلم سجل صفرا أمام الواحد فيصبح الرقم (10 ) إذا ربحت المال زد صفرا على الرقم فيصبح (100 ) وإذا جاء المركز أو الجاه أو الشهرة زد صفرا ثم صفرا ثم صفرا وهكذا حتى يصبح الرقم المليون  اسحب الواحد الذي هو الصحة ماذا يبقى؟ مجرد أصفار.. فمجموعة أصفار لا تساوي واحد كما أن مجموعة أغبياء لا يساوون أمة.


8-حكاية النشيد السوري
( حماة الديار )...
نشيد كلما استمعنا إليه حل برداً وسلاماً على أكبادنا . في موسيقاه نبع من الحماسة لاينضب .
وفي كلماته خلاصة لتاريخنا العريق وحاضرنا المليء بالنضال , هو عنوان الجلاء ورمز الاستقلال.
عزف لأول مرة كنشيد وطني رسمي لسورية صبيحة السابع عشر من نيسان عام 1946م يوم الجلاء الكبير.
*** ولكن .... ماحكاية هذا النشيد .... وكيف تم اختياره نشيداً وطنياً لسورية ‏


هذه الحكاية روتها أديبتنا الكبيرة كوليت خوري التي سمعتها من أصحابها الأصليين . وهما الأخوان أحمد ومحمد فليفل ملحنا النشيد .‏
بدأت الحكاية باختيار القصيدة التي سوف تتحول الى نشيد وطني ولم يكن هنا أي مشكلة حول ذلك فقد كان هناك اتفاق على اختيار قصيدة الشاعر خليل مردم ( حماة الديار) ,وخليل مردم شاعر سوري ولد في أواخر القرن التاسع عشر وعايش مرحلتي الاستعمارين التركي والفرنسي لسورية.... وكتب الكثير من القصائد الوطنية التي تحدثت عن نضال شعبنا ضد الاستقلال.‏


أما الحكاية الحقيقية ....فكانت عند تلحين القصيدة فقد أعلنت الحكومة السورية عن مسابقة لتلحين قصيدة ( حماة الديار) كان ذلك عام 1938م , وكان هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية . وتقدم لتلحين القصيدة نحو ستين موسيقياً منهم ملحنون معروفون مثل أحمد الأوبري.‏
وكان من جملة المتقدمين الموسيقيين الأخوان أحمد ومحمد فليفل من بيروت ,وشكلت لجنة لاختيار اللحن الأفضل ولما تقدم الاخوان فليفل , رفضت اللجنة حتى مجرد استقبالهما والاستماع إلى لحنهما , فذهب الأخوان إلى فارس الخوري الذي كان رئيساً لمجلس النواب آنذاك , وشكوا عدم استقبال اللجنة لهما فطلب سماع النشيد وجد لحنه جميلاً ولم يشأ التدخل في عمل اللجنة فطلب من الاخوين فليفل تعليم النشيد لطلاب المدارس , حتى يحين وقت اختيار النشيد .‏


ونفذ الاخوان طلب فارس الخوري ,وانتشر النشيد انتشاراً واسعاً ,ليس كنشيد رسمي , وإنما كنشيد وطني عادي إلى جانب أناشيد الأخوين فليفل الاخرى مثل أناشيد (بلاد العرب أوطاني) ,( في سبيل المجد) , (موطني) , ( نحن الشباب ) ....‏
لم يتم البت في أمر النشيد السوري , حتى انعقاد اجتماع سان فرانسيسكو الذي بحث استقلال سورية , ومثلنا فيه فارس الخوري ,وكان معه قسطنطين زريق الوزير المفوض لسورية في الولايات المتحدة ورفيق العشا الذي كان قنصلاً لسورية هناك . وفي ذاك الاجتماع تم اقرار حق سورية في الاستقلال , ومن هناك أعلن فارس الخوري أن النشيد الوطني الرسمي لسورية سيكون (حماة الديار) للحن الأخوين فليفل . وأثناء العرض العسكري الذي أقيم احتفالاً بالجلاء لجيشنا الفتي عام 1946م , كانت مكبرات الصوت تذيع النشيد الوطني بلحن الأخوين فليفل.


9-كان السيد فارس بك الخوري ضمن وفد مفاوض في زيارة لفرنسا وفي الشانزأليزيه وقف أمام ماسح أحذية لمسح حذائه وكان برفقته اثنان من أعضاء الوفد راحا يمشيان جيئة وذهاباً وطال الزمن فبادر أحدهما للقول له لقد طوّلت يا فارس بك فأجابه فارس بك قد يرسلونه في يوم ما مندوباً سامياً لنا فلنسايره .
وهذا يدل على قناعة السيد فارس بك الخوري وفهمه لمدى استخفاف الاستعمار بالشعوب


هذه بعض مآثر تلك الشخصية الوطنية التي يجب أن لا ننساها والتي يجب أن تأخذ حقها في ذاكرتنا فهي أسست للسياسة الخارجية السورية منذ ذلك الحين وكان انتمائها الوطني يفوق كل انتماء وهي رمز للحالة الوطنية التي يجب أن نصل إليها وأن نعمل لاستمرارها لأنها تعطي ملامح الشخصية الوطنية السورية التي يجب أن تنمو وتحل في ذاكرتنا ووجداننا لنخرج من الانتماءات الضيقة ولتصبح الحالة الوطنية هي الأساس بعيداً عن التشرذم والانطواء.

 


 
2012-04-27
التعليقات
نوار وقاف
2012-12-18 00:43:48
من عظماء التاريخ السوري...
كل الشكر للأخ الأستاذ وفيق الهوشي

سوريا
زهرة
2012-04-28 14:09:26
رجل وطني عظيم
نفتقد امثاله الآن لكني اضيف انه لم يكن بعثيا

سوريا
حلبي حر
2012-04-27 15:20:54
الله يرحمه
الله يرحمه ويرحم تلك الايام العظيمة

سوريا
أنا
2012-04-27 13:42:50
غريب
أول مرة أسمع بهذه القصص التي تدل على حكمة وعمق بصيرة....شكراً لك إذ عرفتنا على اسم يجدر بنا الاقتباس من شخصيته

سوريا