الشَّيْبُ... يَضْحَكُ فَيُبْكِيْ
الشيبُ :ثلجٌ يلوحُ في سواد الرأس , وسنا بدرٍ يشعّ في ظلام الليل , ونذيرٌ للإنسان
أنّ مرحلة جديدة بدأت في حياته .... هو الضيف الذي لا يقال له : أهلاً ومرحباً ,
فبمجيئه يرحل الشبابُ , ويكثر الإنسان من النظر إلى المقابر والتراب .والشيب هو
الذي من أروع ما قيل فيه :
والشيبُ ينهض في الشباب كأنّه
ليــلٌ يسيرُ بـجانـبيه نـهـارُ
الشيب هو النارُ التي تشتعل في الرأس , وهو من أمارات الضعف والانكسار بين يدي رب العزة , فسيدنا زكريا عندما نادى ربّه نداءً خفياً قال:
(رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) مريم4
ومع أنّ من طبع الكريم حبَّ الضيف , والترحيبَ به , وإظهارَ البشر بقدومه , إلا أنّ الشيب ضيفٌ غيرُ مرحَّبٍ به , وكثيراً ما كان الصاحب بن عبادٍ يردد قبل موته:
أناخَ الشيب ضيفاً لم أردْه
ولكنْ لا أُطيق لـه مَـردّا (1)
وأكثرُ ما يتحسّر الإنسان في حياته على أيام الشباب وعهد الفتوة, عندما يلوحُ الشيب برأسه, لأن الشيب نذيرُ الهرم, فيبكي لعهد صباه, مع أن الشيب يضحكُ في رأسه:
أبكي لعهدِ الصبا والشيبُ يضحك بي
يا للرجـالِ سـبتْ جِدّي ملاعبُهُ
ويتمنى الإنسان بعد المشيب أن يعود إليه الشبابُ , ولكن هيهاتَ هيهات !! فتراه يسكب العبراتِ , ويتجرَّعُ الحسراتِ قائلاً :
فيا ليت الشـبابَ يعـودُ يـوماً
فأخبـرَه بـما فـعل المشيبُ
أما أحمدُ بنُ خلف أبو العباس المعريُّ المعروفُ بالممتِّع , فإنه جعل نهاية المآرب والآمال عندما يرحل الشباب, ويخلف وراءه شيباً وهرماً فيقول :
إذا الشبيبةُ بانت عن أخي أربٍ
فلا مـآربَ بعد الشيب والهرمِ (2)
ويبقى الإنسانُ بعد المشيب يرتقب أجلَه , وينتظرُ ساعة رحيله , فلا شيبُهُ يزول , ولا شبابه يعود :
تـمــرُّ بنا الأيـام تتــرى وإنما
نُســاق إلى الآجال والعينُ تنظر
فـلا عائدٌ ذاك الشبابُ الذي مضى
ولا زائـــلٌ هذا المشيبُ المكدِّرُ
فالشيب يرافق الإنسان إلى حين الممات :
وفكرتُ فـي شيب الفتى وشبابه
فأيقنتُ أن الحق للشيب واجـبُ
يصاحبني شـرْخُ الشباب فينقضي
وشيبي إلى حين الممات مصاحبُ
والشباب والصحة ، من أهم ركائز العلم والعمل , أما الهرم والشيب ففيهما تكثرُ العلل , ويسأم الإنسان بهما من تكاليف الحياة, فقد أنشد محمدُ الرامشيُّ (ت: 490) متأسفاً بقوله:
وكنت صحيحاً والشبابُ منادمي
وأنهلني صفـوُ الشـباب وعلّني
وزدتُ على خـمسٍ ثمانين حجةً
فجـاء مشـيبي بالضنى وأعلّني (3)
والبعض يحاول أن يسلّيَ نفسه عندمـا يـحل به الشيب , وما يرى فيه إلا الوقارَ فيقول :
عيّـرتني بالشيب وهـو وقارُ
ليتها عيَّرتْ بـمـا هـو عـارُ
فيجيبه الآخرُ بالحقيقة الصارخة , من غير مقدمة وبلا مجاملة :
وأيُّ وقارٍ لامرئٍ عُرِّيَ الصِّبا
ومن خلفه شيبٌ وقُدّامُه شيبُ
ويأتي بدويُّ الجبل ليذكر أن القلب لا يشيب , حتى وإن شاب رأس الإنسان فيقول:
يبقى الشبابُ نديّاً في شمائله
فلم يشبْ قلبُهُ إنْ شاب فوداه
في حين نرى أن من حلت به مصيبة ما, قد يشيب قلبُهُ, وإن كان شعرُه كالحَ اللون, يحاكي سوادَ الليل, فنراه يقول :
إلا يشبْ رأسي بعظم مُصابه
بالأكرمين فإن قلبي أشيبُ
ويبقى للشعراء تعليلاتُهُم في الشيب, وهذه التعليلاتُ ـ وللأمانة جعلتهم يأتون بصورٍ بديعة فريدة, في غاية الروعة والجمال, فشهابُ الدين الظاهريُّ, يرى أن الشيب ما هو إلا ضوءُ المحبوبة وسناها, الذي كان متربّعاً على عرش قلبه وفي ثناياه, لكنه أبى إلا بالظهور على وجنتيه, قال:
رأت شيبتي قالت:عجبتُ مع الصِّبا
مشيبُك هـذا !صفْهُ لي بحياتي
فقلت لها: مـا ذاك شـيبٌ وإنـما
سناك بقلـبي لاح في وَجناتي (4)
وعندما استَنّ أهلُ الأندلس لُبسَ البياض عادةً في الحزن على موتاهم، ـ وذلك من عهد بني أمية قصداً لمخالفة بني العباس في لباسهم السوادَ،ـ قال الأستاذ النحويُّ أبو الحسن الحصري:
إذا كانَ البياضُ لباسَ حـزن
بأندلسٍ فـذاك من الصَّواب
ألم تَرني لبستُ بياضَ شَيبـي
لأني قد حَزِنت على الشَّبَابِ (5)
ورأى بعضُ الشعراء في بياض الشيب سواداً للوجه , فحاول أن يلجأ إلى الحيلة والخداع, وقرر أن يقضي على بياض الشيب بسواد الخضاب, وظن أنه سيعيد بذلك الشبابَ وقوته , ولكنْ , ليت شعري ! هل يصلح العطار ما أفسد الدهرُ ؟!.فابن الروميّ يقول:
يا بياضَ المَشِيبِ سَوَّدْتَ وَجْهي
عند بيضِ الوجوه سُودِ القرونِ
فلعمري لأخـفينَك جَـهْدِي
عن عِياني وعن عِـيان العـيونِ
بسوادِ فيـه ابيضَاضٌ لوجهي
وسوادٌ لوَجْــــهِكَ المَلْعُونِ
ومن الأشياء التي استحسنها الشعراءُ والنقادُ , وأكثروا التعجب منها قولُ دِعبُل :( ضحكَ المشيبُ برأسهِ فبكى ) قال: محمود بن حُميد:
كنَّا عند الأصمعي، فأنشده رجلٌ أبياتَ دعبل:
لا تعجبي يا سلمُ من رجلٍ
ضحكَ المشيبُ برأسهِ فبكى
يا سلمُ ما بالشيبِ مَنْقصةٌ
لا سُـوقةً يُبقـي ولا مَلِكا
قال: فاستحسنها كلُّ مَن في المجلس، وأكثروا التَّعجُّب من قوله:ضحكَ المشيبُ برأسهِ فبكى (6) .
والحديثُ عن الشيب يذكرنا بيومٍ يجعل الولدان شيباً , ويذكِّرنا بمراحل عمر الإنسان , كما قال تعإلى :
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) الروم54
وختاماً فاجعل ـ يا أخي ـ بياضَ شيبك انعكاساً لبياض قبلك , واعلم أنك كما ودّعتَ طفولتَك ستودع شبابك , وكما ودعت شبابَك ستودِّع هرمك , وكما ودعت هرمك ستودع الحياة !!
(1) ـ لحظات قبل الموت محمد خير رمضان يوسف , دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع , بيروت ط: (1) 1427 هـ - 2006 ص : 177
(2) ـ شذرات من كتب مفقودة في التاريخ , استخرجها وحققها الدكتور إحسان عباس , دار الغرب الإسلامي - بيروت الجزء : 2 - الطبعة : 3 ، 1988م ص : 374
(3) ـ نوادر الفوائد من كتاب بغية الوعاة ,فرج حسن البوسيفي ج: 1 ص: 22
(4) ـ دكانة الكتب رحلة إلى جزر التراث , محمد خير رمضان يوسف , ط : 1 , 1419هـ , 1998م , دار ابن حزم , بيروت , ص : 189
(5) ـ المطرب من أشعار أهل المغرب ,ابن دحية الكلبي باب : المرواني الطليق ج : 1 ص : 22
(6) ـ الأمالي , يموت بن المزرع , ج : 1 ص: 6
بتصرف