كان يشتهي الحرب في ذلك الصباح الكئيب الماطر .. مضى خمسة وثلاثون عاماً منذ آخر حرب خاضها حتى نسي خوف الحرب ... شجاعتها ... وكيف يعد الموتى من الطرفين ... مئة منا ... سبع وتسعون منهم ... خمسة عشر منا ... عشرون منهم .
الحرب كذلك ... من يسجل أعلى النقاط على الخصم . حدث نفسه : هؤلاء الأوغاد على الطرف الآخر .. فقط لو يطلقون قذيفة ... قذيفة واحدة .. ربما كان هذا كافياً لبدء الحرب . لكن ومنذ خمسة وثلاثين عاماً بدا أنه كسب الوزن والرتب العسكرية والنظارات التي يصر على أن لا يضعها إلا للضرورة القصوى ودون أن يراه أحد .. لم يكسب أو حتى يخسر حرباً. الأعداء أولاد الستين ...... فقط لو يطلقون قذيفة .
ثكنة التدريب العسكرية هذه تبعد مئات الكيلومترات عن الجبهة ... لو أطلقوا ألف قذيفة لن تسمعها إلا بالأخبار ( حدث نفسه وشعر بالخيبة) .
أشعل التلفزيون .. وراح يقلب المحطات عله يجد شيئاً ... الحرب في البلاد البعيدة ... لا تهمه . توقف دقيقتين عند عروض الأزياء .. هذا لا يليق بك يا كولونيل (قال لنفسه) قلب المحطات ... مسلسلات .. برامج الطبخ .. فلم كوميدي قديم ... ضحك قليلاً .. مسلسلات ... أفلام ... عروض أزياء .... زفت ... زفت ... زفت .
- قهوة يا زفت ( صاح بالحاجب ) .
- حاضر سيدي الكولونيل .
قصف الرعد منحه السكينة ليشرب قهوته .. أشعل سيجارة وراح يراجع البريد الوارد ... سيادة الكولونيل رئيس الفرقة التدريبية العسكرية السابعة والثلاثين المحترم ... عطفاً على كتاب سيادة الجنرال ... (كلام فارغ ) ... رقم (كلام فارغ) ... وحسب تعليمات ..... (فارغ) ... (فارغ) ..... وقع أسفل الورقة وتناول الأخرى ..... (كلام فارغ) ... (فارغ) رقم 2666/12 تاريخ ........ (كلام فارغ) ...... كتب تعليماته أسفل الورقة ... وقع .... رشفة من فنجان القهوة ... مجَّ سيجارته ولم ينتبه أنها انتهت .. طعم الفلتر المحترق أفقده صوابه .... كلام فارغ ... زفت .. فارغ ... الجبناء أولاد الستين ..... فقط لو يطلقون قذيفة واحدة لنريهم . كاد أن يكسر المكتب ... قصف الرعد مرة أخرى أعاد له هدوءه ... أشعل سيجارة أخرى .
توقف المطر ... الشجرة الضخمة أمام شباك مكتبه تلألأت تحت أشعة الشمس ... تلك الشجرة يعرفها جيداُ .. زرعوها عندما كان ضابطاً صغيراً .. كان ذلك بعد عودته من الجبهة بشهرين ... حدث نفسه بصوت عالٍ : آه يا كولونيل يا عجوز ... أي حرب تريد ... يا صاحب الكرش والنظارات .( انتبه إلى أنه يحدث نفسه ) ..... وتكلم نفسك بصوت عالٍ أيضاً ... أيها العجوز الخرف .
فتح درج مكتبه تناول مسدسه .. أخذ يفكه وتناول علبة الزيت .. أنهى تزييت المسدس .. مسحه ... لقمه عدة مرات ليطمئن على جودة التزييت .. وضع مخزن الطلقات وأعاد المسدس إلى الدرج .
سطعت الشمس بقوة .. نظر من نافذة مكتبه ... رأى الغيم الأسود يبتعد .. تمنى أن يعود الغيم الأسود و قصف الرعد على الأقل حتى يكمل قهوته .... صوت عصفور آت من الشجرة القريبة ... شحرور ؟ ... لا ... ربما بلبل ؟ ... خبرته عندما كان صغيراً بمعرفة الطيور لم تعد كالسابق ... آآآآآه يا عصافير يا أولاد الـ ...... تختبئون من المطر وقصف الرعد .. ولا تظهرون إلا في الشمس . رغم استمتاعه بصوت العصافير منذ أن كان صغيراً وحين يستلقي قليلاً في الغابة إلا أنه كان يحتقرها ... لم يطلق النار على الثعلب عندما رآه قرب البيت رغم أنه اكتشف في اليوم التالي أن الثعلب أتى في الليل وافترس دجاجتين . الثعلب لا يستحق ضياع ثمن الطلقات ، أما الشحرور المشوي .... فيستحق.
أعاده صوت العصفور هذا إلى طفولته .... شحرور ... لا والله بالتأكيد بلبل . ... نعم ... بلبل بالتأكيد . صوت طرق الباب قطع عليه أفكاره .
- احترامي سيدي الكولونيل ... برقية عاجلة من القيادة العامة للتدريب .
- هاتها .. وهات فنجان قهوة آخر ... الفنجان الأول زفت .
تناول البرقية .. فتحها .. ما هذه الطباعة الزفت .. تناول النظارات من جيبه ليستطيع قراءة البرقية ... تأكد أن الحاجب قد خرج ولم يره يضع النظارات ... إشارة إلى (كلام فارغ) رقم (كلام فارغ) وبناءاً على التعليمات العسكرية المتعلقة (كلام فارغ) ...... أعاد قراءة السطر الأخير عدة مرات ... بالجاهزية الكاملة القصوى .... عاد خمساً وثلاثين عاماً بلا كرش أو نظارات ... يا إلهي .. معقول ... أهي الحرب ؟؟ ... لا تبتعد بذهنك ... ربما محاولة انقلاب ... ربما تدريب ... نعم تدريب على الجاهزية الكاملة القصوى ... وربما .......... حرب .
أشعل التلفاز لعله يسمع خبراً ... مسلسلات ... عروض أزياء ... برامج الطبخ ... فيلم كوميدي قديم ... أهذا وقت أفلام الكوميديا الزفت ... أخبار الحرب في البلاد البعيدة .. مسلسلات ... فلم كوميدي ... زفت ... زفت ... زفت .
- القهوة سيدي .
- ضع القهوة وأرسل هذه البرقية لكل أقسام الثكنة ... ليوقع عليها كل الضباط .. اطلب منهم أن يجتمعوا في مكتبي خلال نصف ساعة ... مفهوم ؟
يا إلهي لتكن الحرب ... ربما هداهم الشيطان في الطرف الآخر وأطلقوا القذيفة الأولى .... محاولة انقلاب ؟ ... تدريب على الجاهزية ؟ ... لا لو كان كذلك لكان .. ( قطع تفكيره صوت العصفور ) ... عصفور حقير ... عصفور زفت .. عصفور ابن ستين ....
- برقية أخرى سيدي .
تناولها بسرعة ... تناول النظارات من جيبه دون أن يعير انتباهاً للحاجب .... إشارة إلى البرقية السابقة رقم ..... و بناءاً على ...... وحسب التعليمات العسكرية ........ نؤكد على ضرورة وضع ثكنتكم بالجاهزية الكاملة القصوى لمنع كل الخونة الـ .... ( كلام فارغ ) ... ( كلام فارغ ) .... انتهى .
أعاد النظارات إلى جيب سترته العسكرية .. أشعل سيجارة .
- بلغت الثكنة كلها بالبرقية سيدي الكولونيل والاجتماع في مكتبك بعد نصف ساعة بالضبط .
- هل تسمع صوت العصفور بالخارج ؟
- نعم سيدي .
- ما نوعه ؟
- أظن شحرور ... أو ربما بلبل سيدي الكولونيل لا أدري .
- انصرف .
النظارات و الكرش لم تعد تقلقه ... لكنه في تلك اللحظة كان يريد أن يعرف نوع العصفور الزفت .. ابن الستين ...... الجبناء ... الكلاب ... العصافير في الجهة الأخرى من الجبهة ...... لم يطلقوا القذيفة .... فتح الشباك ... نظر إلى الشجرة الضخمة .. كان يسمع صوت العصفور المختبئ خلف الأغصان الكثيفة ولا يراه ... تناول النظارات من جيبه ... أخذ يدقق ملياً بين أغصان الشجرة حتى استطاع أن يلمح العصفور مختبئاً بين الأوراق ... شحرور؟ ... ربما كان بلبلاً لكن أوراق الشجرة الكثيفة .. وربما ضعف نظره ... لم تجعله يميز نوع العصفور ... شحرور ... بلبل ... دوري .... لا يهم ... تملكته الرغبة بعصفور مشوي .
تناول المسدس من درج مكتبه ... لقَّمه ... عاد صغيراً ... راح يتذكر ما علمه إياه جده ... نعم ... هكذا تسدد على الهدف .... من بين الأغصان الكثيفة بدا العصفور واضحاً تماماً له ... شحرور بكل تأكيد ... شحرور ....... مشوي ..... قصف الرعد تحت الشمس الساطعة .... هوى العصفور إلى الأسفل ... قبل أن يتملكه الفرح الذي لطالما اعتراه لحظة سقوط الهدف .. قبل أن ينسى النظارات ... الكرش ... وقذيفة الأعداء الأولى ... اهتزت أغصان الشجرة الضخمة وأوراقها كأن رعشة عظيمة قد أصابتها ... طارت مئات العصافير المختبئة وحلقت بعيداً عن الثكنة .
لا ادري لماذا لم يظهر تعليقي الاول.. بكل الأحوال أيها الصديق العزيز لقد أمتعتنا ببساطة التعبير و المقاربة الغير معقدة لإيصال الفكرة .. انسياب التفاصيل الصغيرة جعلني احس و أتفهم اعتلاجات هذا الكولونيل .. و أقارن . شكرًا يا جنرال.
سوف تبقى العصافير تحلق حرة في السماء شاء هذا الكولونيل أم أبى...
اهلين حبيب....حقيقة ما بعرف ليش كل هالتعصيب...يعني بلاها القهوة والدخان...اكيد بيضبط وضعو....وبس....شكرا...جدا...اي نسيت قلك اشتقتلك كمان