إن الحياة مراحل متبدلة متغيرة ..كل مرحلة تتميز.. بمحتواها ومضمونها على خط سير الزمن .. بما تملك من مجريات حدث ..وأعمال منفذة على خارطة المرحلة .. لذلك كانت الفوارق تتباعد وتتقارب.. بين مرحلة وأخرى..ومن شخص لآخر ..كل مرحلة تأتي مثقلة بما حملته المرحلة السابقة.. من نجاح أو فشل.. إلا المرحلة الأخيرة.. مرحلة التقاعد..
هنا يترك الإنسان كل ما حمل من متاعب وهموم.. متوهما أنه على مشارف الراحة والاستقرار لجسم بشري.. تعب وكلّ خلال عقود طويلة من الزمن.. متكئا على قدر رسمته الأقدار.. لغاية الاستمتاع بنهاية مشوار طويل.. وحصاد عمر مضى.. ورؤية شاملة لأحداث عاشها وتعايش معها..عبر شريط ذهبي جميل.. وأمل بحياة جديدة ستعاش ..وسط زحام الحياة ومشاكلها ..وسرعة فائقة لتحول تقني كبير .. تصور ويتصور البعض أنه لاحاجة للمشاعر.. ولا وقت للتأمل والخيال ..في خضم إنجازات كبيرة متعددة الجوانب.. تتحدث بالأرقام ..
يعتقد الآخرون ..أنه لامكان ولا وقت للتوقف والتفكير ..فالركب يمضي سريعا.. دون أن يلتفت إلى الوراء ..متأملا بعين فاحصة ما أنجز الآخرون .. فالمهم تحقيق الأهداف.. دون لحظة تقدير أو امتنان.. لمن أفنوا حياتهم في عملية إنجاز كبيره.. على شكلها الحالي .. بذلك يصبح الإنسان رقما في عملية حسابية ..وترسا في آلة صماء صنعها لتريحه ..سيدرك أصحاب هذا الرأي.. خطأ مداركهم وفداحة أخطائهم..عندما يأخذون دورهم في النهاية..فالإنسان عبارة عن شعور متدفق مليء بالمحبة .. وقلب ينبض بالأمل ..وفكر يتأمل بموجودات الكون.. ومقدرات الحياة ..
فبقدر ما يجد هذا الإنسان التقدير والمحبة والعرفان.. بجميل لعمل قدمه.. يكون للأنجازقيمة كبيره وعنوان عظيم ..إن إنجازات هؤلاء ..قارعي أبواب التقاعد ..إنما هي أجمل ذكرى.. وأرفع وسام وطني.. لهم على أرض الواقع والحقيقة ..فمشوار حياتهم يظل دائما.. أكبر من أي وصف.. مهما كانت مساحة العطاء .. أو كلمات مهما كانت بلاغتها .. إنهم تقاعدوا بفعل مسطرة الأيام ومقياس الزمن.. مفسحين المجال لأبنائهم .. ثمرة جهودهم الطيبة.. فخورين بتسليم الراية ..لمن يروا فيهم استمرارا أكيدا لحياتهم .. تأتي مرحلة التقاعد للإنسان ..وفقا لمعايير بشرية .. حياتية تم وضعها من قبل مختصين بهذا الموضوع .. تراعي العمر والمهنة والقدرة على العطاء.. ضمن ظروف متنوعة.. متبدلة بمفردات قوانينها ..
عندما وضع قانون ونظام التقاعد .. كان كفيلا بنقل المتقاعد من حياة العمل ..لحياة ملؤها الراحة والسعادة والاستقرار ..من تأمين ضروريات الحياة الأساسية.. وخدماتها المتنوعة ..طبية ..معاشيه ..ترفيهية..والكثير منا يرى في أغلب الأحيان.. ما نطلق عليه تسمية كروبات سياحية .. تأتي لبلادنا زائرة ..وعند التمعن بعناصرها.. نجد أنها للمتقاعدين ..متقاعدين أمنت لهم بلادهم حياة سعيدة .. ورفاهية تامة .. فعملت على نقلهم لدول متعددة ..في سياحة زمنية واسعة النطاق.. واستجمام أجسام نال منها زمن العطاء .....هذا هو النظام التقاعدي .. كما يراه المتحضرون..تم وضعه وصياغة بنيته بذكاء الخبير.. لابعطاء الخفير ..
تمت صياغة بنوده..بما يخدم إنسانية الإنسان.. في آخر مراحل التكوين.. من هنا كان الفارق الكبير .. في قانون ونظام التقاعد ..لدينا ولدى الآخرين.. هل المتقاعد لدينا إنسان هنا ..غيرالأنسان المتقاعد في دول أخرى .. لدينا لم يحفظ له القانون شيئا من كرامة .. بل يرميه كقطعة بالية.. غدت عديمة الفائدة.. على قارعة الطريق .. براتب لا يكاد يكفيه.. ثمنا لدواء بات مضطرا إليه.. فكيف والحال.. إذا كان لديه من الأبناء.. من هم بحاجة ماسة إليه .. لاستكمال مشوار حياتهم.. وتحقيق أحلامهم في بناء مستقبل مشرق ..المتقاعد لدينا.. يصرف من الخدمة براتب ضعيف .. وتعويض أضعف .. وخدمات مشلولة معدومة التواجد ..اللهم إلا في زوايا القوانين ..المولودة وهي في حالة الاحتضار .. النفي طوق عنقه وبات غريبا عن الجميع .. فكم من متقاعد.. فقد شلة الأصحاب والخلان بعد التقاعد .. أي بعد فقده لعمله ومركزه ..غدا القرار والتحكم به ملك الآخر ..
فالراتب لا يكفي والحياة لاترحم ..وطلبات ست البيت ..تزداد يوما بعد يوم ..فهو الحاضر دائما أمامها وعليه تدبير الأمور .. إذا لابد من البحث عن عمل آخر يستر الخلق.. ويمنع العوز والحاجة ..وكلما طرق بابا للعمل.. كان الجواب أنه متقاعد ..لوحة رسمها القانون ومنحه بطاقة.. لايعترف بها أرباب العمل والمصالح .. وكأن الدولة عوضا عن تقديم مكافأة له بإحالته على التقاعد .. قامت بمنحه وثيقة رسمية للموت.. وتصريح مباشرة بالدفن .. وأصبح المتقاعد بفصل الكلمة.. يقال له (مت قاعدا )رحمك الله .. كفاك حياة .. لاحاجة بنا إليك..لكن قسوة الزمن ومرارة المتطلبات.. لا تترك له الخيار ..فتجبره على قبول ما لا يقبل تقاعده ..أي سنه وعمره الكبير .. يعزي نفسه بالقدرة ..على تنفيذ بعض الأعمال المجهدة لأرقام السنين.. والتي استطاع بالكاد الحصول عليها وبالواسطة.. لتغطية نفقات وطلبات ضرورية مستمرة ..
عمل لم يكن يقبل به وهو شابا ..على مدخل الحياة .. هاهو يقف صاغرا أمامه.. في آخر أيام حياته , يعمل ويعمل مسابقا ماله من عمر وطاقه ..ولكنه سرعان ما يدرك سر التقاعد الحقيقي ..يسيطر عليه الوهن والمرض.. ويرى نفسه مرميا في إحدى المشافي العامة.. حيث لا حياة لمن تنادي .. وبعد مدة قصيرة تسمع أو تقرأ.. خبر نعوته وانتقاله للعالم الآخر.. منفذا هذه المرة أمر التقاعد والى الأبد..انه كان صاحب حلم بسيط .. يحلم بالجلوس في حديقة عامه ..يتصفح جريدة.. يجالس الزملاء المتقاعدين..يتحادثون بما مضى بفخر واعتزاز .. يتنفسون هواء الأيام الباقية من العمر.. بعيدا عن مشاغل الحياة وهمومها..منتصبا أمام محراب الزمن..يدون قواميس الشرفات ..يرشف البقايا من ظلال الذكريات المتعاقبة .. من رسل الأيام القادمة.. وفي أي وقت يرغب..
يقف أمام المحال التجارية .. يتفرج ويشتري ما يريد.. لكن حلمه الأخير ضاع.. مع حلم الآلاف من المتقاعدين.. في حياة هانئة سعيدة .. فتسابقوا على طريق المقبرة .. فكل يوم تقرأ عددا كبيرا من النعوات.. على أبواب مقرات المتقاعدين .. أو في الصحف المحلية .. أوعلى جدران البيوت.. حيث شوهت أسماءهم طلاءها .
رحم الله من غادروا .. وليكن بعون من تبقى على قيد الحياة .. معتمدين قول مصطفى
ألرافعي ( إذا لم تزد على الحياة شيئا ..تكن أنت زائدا عليها)
فريد الياس نسب