عَرَضَت عليه زوجته أن يخرج معها لزيارة ابنتهما لكنه فضل البقاء، لا يدري لماذا تقاعس عن الذهاب معها..
الآن هو بمفرده في المسكن مع الليل و اللاشيء، ليس عنده رغبة في القراءة و لا في مشاهدة التلـﭭزيون، يشعر بدوار، و بألم في كل مفاصل جسده، الدوار و الألم ليس شديدين و لكنهما غير مريحان، يصاحبهما رغبة شديدة ملحة في الانسحاب، الانسحاب من ماذا؟ من كل شيء، تملكه شعور قوي أن روحه تنسحب من جسده ببطء، يبدأ الانسحاب من القدمين و يستمر إلى الساقين و يأخذ طريقه لأعلى بالتأكيد سيصل للرأس و المخ سريعا، الجزء الذي تنسحب منه الحياة يبدأ في البرودة و التنميل، سيطر عليه شعور طاغ أن أجله قد حان، انتابه الرعب، هل يتصل بزوجته هاتفيا؟ و لكن ماذا يقول لها، هل يقول لها أنه يموت ثم يطلب منها الرجوع؟
أخذ نفس عميق، بدأ يفكر بهدوء و بدون انفعال، ما زال يستطيع التفكير و هذه علامة إيجابية، حاول تقييم ما يحدث له، هل ما يمر به حاليا هو بوادر ذبحة صدرية؟ لقد أكل عشاء دسم كبير من حوالي ساعة و لكن هذه ليس أعراض الذبحة فلا يوجد ألم حاد بالصدر، خيل له أن ما يمر به هو أعراض نفسية أكثر منها جسدية فالألم و الدوار ليسا شديدان و لكن الأقوى منهما هو شعوره ببداية خروج روحه من جسده و الذي يراه شيئا معنويا
وسط هذه المشاعر المكثفة ساوره إحساس غريب بالترقب و إلى حد ما بالاستمتاع بالجديد المجهول هذا الذي يمر به، ترى ما هي الخطوة التالية؟ هل سيرى عزرائيل فعلا؟ سمع أن عملية خروج الروح من الجسد تتم عندما يظهر عزرائيل للمتوفي ليقبض روحه، فهل فعلا سيراه؟ أليس هذا حدث جلل؟ فليتناسى موضوع الموت و الحياة الآن، مجرد رؤية عزرائيل و التعامل معه أمر يستحق الترقب، لكن ما الذي يقصده بالتعامل معه؟ مفروض أن من في طريقهم للعالم الآخر لا يتعاملون مع عزرائيل، إنهم فقط عرضة لفعلته، عرضة لمهمته الحاسمة وهي قبض أرواحهم، فعزرائيل هو الذي يتعامل معهم بينما هم المفعول بهم، لكن ماذا لو حاول هو تغيير هذا النمط؟ ليس بغرض الهروب من الموت أو حتى تأجيله و لو للحظات، إنما رغبة في المعرفة، فليحاول أن يدردش مع عزرائيل، أن يسبر أغواره، أن يعرف أحاسيسه بخصوص مهنته، هل يستمتع بما يقوم به؟
هل هو نوع من الروبوت الذي لا يحس بما يفعل؟ ما مدى مهنيته و تفانيه في إجادة وظيفته هذه؟ازداد الألم بعض الشيء و ازداد الدوار، شعر بروحه تنسحب منه أكثر فأكثر، هل يجب عليه أن ينطق بالشهادة الآن؟ سأل نفسه هل فعلا يجب أن ينطق بها أم واقع أنه يؤمن بها يؤمن بمضمونها إيمانا مطلقا طول عمره يكفي؟ ثم إذا كان من المحتم عليه و لو من باب الاحتياط أن ينطق بها هل المفروض أن يتم ذلك مباشرتا قبل خروج روحه؟ رغم ضعفه الجسدي فذهنه ما زال يعمل، بل خيل له أنه يعمل بنشاط أكثر من العادي، قد تكون هذه ظاهرة مشجعة، لعلها علامة على أنه يمكنه تلافي الموت الليلة، قد يمكنه ذلك إذا فكر بطريقة إيجابية، فكر مرة أخرى أن يطلب زوجته هاتفيا، مجرد وجودها معه قد يساعده على المرور بالمحنة التي يتعرض لها، لكن هل هو يتعرض لمحنة فعلا؟ هل الموت محنة؟ هل يرغب حقا في مقاومته؟
ألا يكفيه سبعين عاما عاشها؟ دفعه ذلك إلى مراجعة مسار حياته، لا يوجد هناك ما يشينه، قد تكون أكبر ميزاته أنه إنسان حبوب و خلال حياته لم يضر أحد لكن هل هذا يكفي؟ ليته كان إنسانا أكثر تأثيرا، ليته استطاع أن يغير العالم أو حتى يغير مجتمعه للأحسن و لو في أضيق الحدود.أحس أنه يتفلسف أكثر من اللازم في وقت لا مجال فيه للفلسفة، شعر أنه يجب أن يكون أكثر عملية في تفكيره، قاده ذلك الشعور إلى التفكير في ملابسه الداخلية، عندما يشرعون في تغسيل جسده و يخلعون عنه ملابسه الداخليه هل ستكون نظيفة و لائقة حتى تحظي جثته باحترام القائمين على عملية التغسيل؟ حاول أن يتذكر متى بدل ملابسه الداخلية، و عنت له فكرة أن يغيرها الآن و يرتدي طاقم جديد نظيف و لكن ضعفه و آلامه منعاه من تحقيق الفكرة.اشتد الدوار عليه، شعر أن انسحاب روحه من جسده يكتمل، أظلمت الدنيا بالتدريج، لم يرى عزرائيل بعد، ردد أكثر من مرة بصوت خافت "لا إله إلا أللاه، محمد رسول الله"، توقفت أفكاره و وصل لمرحلة اللا شيء.استيقظ في الصباح، توجه للحمام بشعر منكوش و هو يتمطع، مر بزوجته وهي جالسة في الصالة، سألها "حنفطر إيه"، لم ينتظر ليسمع ردها، دخل الحمام و قد نسى تماما أحداث الليلة الماضية.
الأستاذ المحترم شريف رفعت . كم سرني أن أرى أسمكم الكبير يشع بين نجوم الأسماء البارزة والموهوبة هنا . ولعله من أبرز الأسماء . وكم شدني اسلوبكم في الكتابة . كما يفعل دائما فأخرجني من عالمي إلى عالم ما يحصل مع الرجل , بطل قصتكم الرائعة . التشويق والغموض سمة كتاباتكم الجميلة . والعبرة في التفكر بعد القراءة . سلامات من القلب للأستاذ الكبير شريف رفعت