syria.jpg
مساهمات القراء
قصص قصيرة
دحمان المنجعي ...بقلم : جواد حمزة

مسكين على باب الله ودرويش من دراويشه الكثيرة ..
إن عَمِلَ أكل وإن لم يعمل فتح فمه للهواء يقتاتُ منه حتى يفرجها الرحمن ..كما كان يقول ..
لم يرتد أي مدرسة بعد أن نال الشهادة الإبتدائية والتي أقسم معلمه الذي منحه إياها بأن يستقيلَ من التعليم ويعمل بائعاً على ( طنبر ) إن مرَّ عليه جحشٌ آخر كدحمان المنجعي ..


عمل مع والده في حراثة الأرض ردحاً من الزمن كاد فيها أبوه أن يدفنه حياً أو يربطه مكان ثوره الأعرج كلما اشتد به الغضب وصعب عليه أن يميز بينهما : بين الثور ودحمان ابنه ..
هرب إلى الشارع وتقاذفته الحياة فيه بلارحمة .. مضغه الدهر هناك سنيناً متعاقبة ولفظه بقايا حطام آدمي لاحول له ولاقوة ..
تنقل من مهنة إلى أخرى وتلقى الخازوق إثر الآخر حتى استقر به المقام نادلاً في مقهى مَنسي على قارعة أحد الأزقة الجانبية في أطراف مدينة شاسعة لاتنام ..
استقرت به الحال أخيراً فشبع بعد طول جوع ..واكتسى بعد طول عري ..وتورَّدت خداه دفئاً وبرقت عيناه حيوية .. وأصبح يعرف بأن هناك حياة أخرى كان لايحياها سابقاً ..

تجرأ يوماً على أن يشتري جريدة .. وحاول جاهداً أن يقرأ في سطورها مايدور حوله من أحداث بعد أن وصفته شابة نضرة من زبونات المقهى بالحمار لأنه لم يعرف أي معنى ثوري للحرية عندما سألته وهو يقدم لها كوباً من القهوة ..
نكاية بها قرر أن يقرأ ويتعلم ليثبتَ لها بأنه أفهم بكثير من هذا المخلوق الذي شبهته به ..

قادته الصدفة إلى التعرف على ثلة من شباب الحي ..
طيبته وحسن خلقه ودفء لسانه وبلاهته شفعت له بأن يسامرهم بين الحين والآخر وأن يحتسي معهم الشاي بنهمٍ غير لبق وهو يحدق بكل واحد منهم وينصت بانتباه شديد إلى حوارهم ونقاشهم والذي كان يجهد ذاته لاستيعاب ولو جملة واحدة من منمقه ونصوصه وعنفوانه .. فخاب كثيراً وفلح قليلاً ..

منهم سمع لأول مرة عن غيفارا ..وعرف بأنه طبيب عمل بالسياسة وقاد ثورة وعاش متشرداً ومات مقتولاً .. ولفرط تأثره بقصته تخلى عن وجبة غداء ليوم واحد واشترى بثمنها صورة كبيرة له علقها في غرفته .. وبقي يحدق فيها ساعات طوال ..

بقي ثلاثة أيام يتهجأ كلمة ( إيديولوجيا ) بعد أن سمعها مراراً وتكراراً من رفاقه ..صعبة كانت وطويلة وحروفها متراكبة بطريقة غبية ..
وعندما أتقن لفظها حاول كثيراً أن يسأل عن معناها لكنه أبى لرادع فطري داخلي كان يلجم لسانه عن السؤال ..

أما كلمة ( دكتاتور ) فكانت أخف وطأة على لسانه وروحه من كلمة إيديولوجيا ولم يستغرق وقتاً طويلاً حتى أتقنها وفهم ماتعني .. لكن بقي يتساءل في ذاته : من يكون ..؟

طال السمر وطاب لدحمان السماع لرفاقه الجدد .. وطابت لأذنيه ماكان يسمع عنه لأول مرة كالدستور والأحزاب والتوريث والفساد والامبريالية والصهيونية والعولمة و.. و ..و ...

واستيقظ دحمان يوماً على بركان في البلد وقد بدا يلتهم الأخضر واليابس ..
سار مع السائرين .. وتظاهر مع المتظاهرين .. ورقص معهم وهتف بينهم بقوة بغل وعدة أحصنة ..
صرخ مستجدياً حرية التعبير .. فلأمثاله خلقت هذه الحرية ..
واستجدى الكرامة .. والعدل .. والمساواة ..
وطالب بالحرية التي خشي أن يسأل منظرو الحراك عن أي حرية يتحدثون ..
وسب ولعن ( المادة الثامنة ) وطالب بتعديلها .. لابل وحبسها وتعذيبها وقتلها إن لم ترضخْ لما يريد الشعب ..


غنى ورقص على الصور والتماثيل الممزقة والمتحطمة ..وأكبر همه كان ( قانون الطوارق ) والذي من أجله حطم دحمان واجهات المحلات وزجاج السيارات وقطع طرقاً وحرق بيوتاً واقتلع شجراً وضرب أناساً ..
وكله احتجاجاً على هذا القانون الأخرق الذي جعل من الوطن سجناً كبيراً كما قال له جاره العشريني في ساعة تجلي ثورية ..

ودارت الرحى على الجميع ..وحلَّت الكارثة بالوطن ..
ونزح من نزح وبقي من بقي ومات من مات .. ومالم يُدمَّر مازال ينتظر دوره للتدمير ..
ووجد دحمان نفسه يكافح ويناضل للحصول على رشفة ماء ورغيف خبزٍ في مخيمات الشتات ..

وهناك شوهد يجمع حوله رهط من رفاق دربه يستذكر معهم أيام النضال والكفاح ..ضد الدكتاتور الذي عرفه أخيراً وضد المادة الثامنة و( قانون الطوارق ) ..
وقيل بأنه مازال يتقن لفظ كلمة : إيديولوجيا .. ولم يعرف عنه إن كان قد فهم معناها حتى الآن أم لم يفهم ..

2013-02-23
التعليقات