أصدقاء منذ عهد لست أذكره , لم نكن
نتبادل قليل المشاعر فقط..! بل تبادلنا كل شيئ , حتى الألم
.. تقايضنا الفرح مرارا ً , تجرعنا السعادة في لفافات تبغ ٍ ومارسنا أحلامنا كما
تـُـمارس "العادة السرية" بسرية ٍ
تامة ,خوفا من أن يشــتّم َ أحد ٌ ما نشوة تلك الأحلام...
كانت صداقة ٌ جَـــد ُ سرية , لما احتوته من جنون
.. ولم نستطع إلى الحب سبيلا ,لأن تآخي حالتينا كان يتطلب
بإستمرار الإبتعاد عن غرائز جسدينا , ويُــلح ُ بجنون على تلك الرياضة الفكرية في
إكتشاف نفسينا وتحليل
ما يعترينا من مشاعر ..
في حين ٍ لم تكن فيه تلك المشاعر تبحث سوى عمن تلجأ إليه لتبوح له بالمزيد
,ولعفويتها في بحثها
ذاك ظلت بعيدةً عن الحب وضَلت عنه ..!
لم أكن "أن" أعرف الحب بعد ولم تكن هي تعرفه أيضا , كنَّا واقعين باستمرار في فخ
المقارنة
فأي شاب لا يزيدني جنونا ً فهو بحكم المرفوض , وأي أنثى ً لا تزيدها شبقا ً فهي
بذات الحكم .
وكانت أمنيتنا الكبيرة أن نلقى مجانين مثلنا , وقلّما تتحقق الأمنيات في زمننا هذا
..!
ذات لقاء سألتها : أي ُ مجنون ٍ تبحثين عنه ؟؟! , ولم تجبني حينها , وساد صدى سؤالي
أرجاء المكان ,
لم أدرك أنني أقلب الدنيا حولها بذاك السؤال .. لكنها لم تنسه أبدا ً ,وبعد أن
اعادت ترتيب الدنيا حولها
أجابتني ذات بوح :
"من أبحث عنه هو مجنون يشعل جسدي ارتعاشا ً , نشوة , وشبقا ً ..
كما تشعل بكلامك عقلي تساؤلا ً , حيرة ً, وأرقا ً...!
لم اتوقع أن تجيب بطريقة ٍ تستفز بها كل أبجديات الجنون , وتثير بها كل فنون الألم
,
لتمضي أمامي تاركة ً مكانها كل آهات الفكر ,الجسد , والحب
هي أنثى ً خلقت من أول قطرات النشوة ,من رجفات أول الرعشة .. ومن عمق الشبق
لففت سيجارة , تلقفتها , وأشبعتها نارا , ولم يأخذ الحـُــكم على أنوثتها وقتا ً
طويلا ً ,فبعد ان نفثت أول الدخان ,
حكمت ُ بأنها انثىً ستحيا بسياط الإفتقاد ,مرتعشة كذبيحة ٍ في غيبوبة الأمنيات
ستحيا عمرا ً طويلا ً فأصحاب الألم
يعيشون طويلا ً , وكما يشاء الهوى يجدد الأيام ليعيد إشعال رماد الذكريات ..مرارا ً
بمرارة ٍ
غادرت طاولتنا تاركا ً مكاني حكمي على أنوثتها ليقابل الآهات التي بقيت مكانها ,
متساءلا ً :
" أيستطيع حـُــكما ً رحمة َ آهات ٍ في محكمة ٍ قاضيها قدر ٌ أحمق , مستشاريه
القسمة والنصيب ,
والمدّعي العام فيها الظروف ..؟؟
وذات ضجيج .. ظهرت بفستانٍ أبيض ضرجت شاحطه الدماء , تعانق وحشا ً يزأئر هنا وهناك
منتصرا ً ,
يغرز مخالبه على خصرها كفريسة ٍ سيلتهمها بعد ساعات على فراش الزوجية المقدّس ..
و بمباركة الرب , ومباركة العائلتين , ومباركة القانون , رجل الدين , والحضور ..
أعلنوهما زوجين ..!
تباروا في رفع الأيادي عاليا ً ,قـُرعت الكؤوس , وشرب الجميع نخب ذبـح ِ روح ٍ نقية
ٍ مجنونة ,
وإغتصاب جسد متعطش للحب حين سيختلي الوحش عروسه العذراء
فـُــضـَــت البكـــارة ..وعاشت الذكورة .. وليحيا الوحش , وبارك الرب هذا الزواج
الميمون !.
أصبت ُ حينها بخدر ٍ غريب , لم أشعر بالبرد أو المطر أو الألم , توقفت كل حواسي عن
العمل ,بإستثناء السمع !!
كنت أسمع بوضوح شديد صراخها من خلف الإسمنت
صـُــراخ ...
نعم .. هي تصرخ .. هو صوتها .. هي ...!
هنا صوت آخر أيضا .. من هي يا ترى ؟
وها صوت ٌ آخر,هناك ؟
وصوت ٌ هنا وهنا , وهنا أيضا
الصراخ يملأ المدينة .. من خلف الإسمنت !
ناولني منديلا ً بيد ٍ ,وبالأخرى وضع كأسا ً أمامي قائلا ً : " ألا تشعر بالبرد ؟..
جفف رأسك,سأضع المزيد من
الحطب بالموقد , اشرب..! "
أومأت برأسي إلى صاحب الخمارة , أخرجت تبغي .. ولففت سيجارة بعجل وأشعلتها ,تجرعت
كأسي دفعة واحدة ,
كنت لا أزال أسمع صراخهن وكأنني أقصد أن أكون منصتا ً إليهنَّ فقط , في وقت أني لا
زلت فاقدا لأي تركيز آخر ..
يا ساق ٍ زدني .. أرجوك زدني يا ساقٍ , يا ساق ٍ زدني ..أرغب أن أصم أذنـيَّ
فالصراخ ملأ رأسي..
الرابعة صباحا ً ...
لملمت طقوسي وخرجت للشارع , لم يكن هناك صراخ ٌ فبعد ساعات منه ُ اعتدن َ الألم ..
لم يكن صراخا ً بل
كان أنينا ً..!
أنينا ً يملأ السماء
أنينا ً فقط ..
طوبى لـَـكــن َّ يا من تصرخن كل ليلة , وما من مجيب