وضب ملابسه كمن
يستعد لسفر نهائي.. رتب سريره للمرة الأولى..
رتب ذاكرته في علبة صغيرة للذكريات.. وضعها جانبا ً..
أخذ فقط صورة لحبيبة تركته لأجل آخر.. كتب عليها "سأحبك
إلى أن تموت "
رتب الحقيبة
الأخرى بشكل مناسب لخطة مماثلة..
ترك المبلغ الذي لطالما حلم بحمله بين أصابعه ذات يوم.. بجانب رسالة تفسر كل شيء..
اعتذر فيها لأهله الذين سئموا من صرفهم عليه وهو شاب في هذا العمر.. معتقدا ً أن
المبلغ الذي تركه سيعوض رواتب سنوات كاملة من التعب..
بدأ يسترجع
ذاكرته رويدا ً رويداً
تخرجه من الجامعة كانت الصورة الأولى.. فقر والديه الذين لم يمنحهما العلم ثماره
كما منحه, كانت الصورة الثانية.. حبيبته التي تركته لأنه اعتبرته فاشلاً حتى في
العمل.. فهو لا يعمل كما يعمل الآخرون بأي شيء لأجل لقمة ٍ لا تكفي أن تكون (نقرشة
مسائية)..
لم يقنعوه بكلامهم عن مميزات خيالية.. أقنعه المبلغ فقط.. أغراه منظره في الكيس
الأسود كفتاة عارية إلا من السوء..
كان لأول مرةٍ مبتسما ً... مقتنعا ً بما وصل إليه من نكران للذات وتحجيم للنفس..
كان يعتقد مقتنعا ً أنه نكرة ..
وقف على الموقف دقائق..أشار بيده إلى ميكرو باص يتجه إلى الجامعة.. وهو يصعد تأمل الفتاة التي اختار أن يجلس أمامها تماما ً.. تأملها وهي تقرأ محاضرتها.. بدأ يفكر بأي كليةٍ هي .. وماذا تقرأ.. أبعد هاجسها عنه قليلا ً..
وقف السائق عند
كشكٍ صغير للمشروبات السريعة.. وطلب كأساً من الشاي.. سارع ونزل وطلب قهوة حلوة..
فهو يود أن يستمتع بكل لحظة متبقية.. همّ السائق للعودة فتأهب الآخر للصعود.. حِمل
حقيبته كان أكبر مما تخيل.. وهو يصعد انزلق فنجانه على ثيابه النظيفة.. سارع يحدث
نفسه بصوتٍ منخفض (يال البهدلة).. بحث في جيوبه عن محرمةٍ فلم يجد.. جلس يائسا ً
منتظرا ً المحطة الأخيرة التي سيفرغ فيها حمل سبعةٍ وعشرين سنةٍ من الفقر...
يدٌ لطيفة امتدت من الخلف..إصبع واحد طرق على كتفه مرتين.. التفت .. وإذ بالفتاة
الجامعية المحيّرة تمد له محرمةً ليمسح ثيابه.. أخذها بشغف كأنها وردة عيد الحب
الضائع منذ زمنً بعيد.. لم يقل لها شكرا ً ولا عفواً ولم يبتسم.. مسح ثيابه ..وارتشف
ما بقي في فنجانه.. فتح الشباك.. ورماه بسرعة..
التفت إليها.. نظر إليها مباشرة ً في عينيها : " شكرا ً.. لقد أنقذتي الموقف.."
ابتسمت وكأنها تقول (لا عليك).. وضع يده على صدره وأخفض رأسه قائلا ً : "وائل"..
أجابته: تشرفنا..
أشار للسائق أن
يقف.. السائق خفف سرعته قائلاً.. أنت طلبت الجامعة ونحن لم نصل بعد بقي القليل فقط..
أجابه لقد عدلت عن رأيي.. وقف السائق على يمين الطريق..
نزل وائل ..ركض
إلى مكانٍ بعيد لا يوجد فيه أحد.. ركض كثيرا ً حتى تأكد أن المكان مناسب.. ضغط بيده
اليسرى على المحرمة المتسخة قهوةً.. قربها من أنفه.. شمها.. قبّلها..كما لو أنه
يقبّل صاحبتها.. أخرج الصورة العتيقة .. نظر خلفها..قرأ مرارا ً ما كتِب....
تردد قليلا ً لكن الشروط في هكذا خطط تكون صارمة ً جدا ً خاصة ً حين يكون المبلغ
ضخما ً كهذا..
---- دخلت الأم إلى الغرفة.. تفاجأت بمنظر السرير المرتب.. الثياب المطوية والموضوعة في كيس قمامة نظيف.. بحثت أكثر.. فوجدت رسالةً بالقرب من كيسٍ أسود كبير.. فتحت الرسالة مسرعة.. قرأت ولدها يقول أنه يحبها ويحب والده كثيرا ً ويتمنى لو يسامحاه على كل شيء.. نظرت إلى الكيس وتقدمت لتفتحه..---
ضغط بيده اليمنى على زرٍ صغير كان في جيب بنطاله طول الوقت.. سمعت الأم الصوت ورأت النقود وانهمرت عيناها بالبكاء..
الدخان ملأ
المكان .. الصوت وصل حتى الجامعة.. سيارات الإسعاف ملأت المنطقة ..
لا مصابين.. لا جرحى.. لا شهداء "تفجير في مكانٍ خالٍ " كتب في التقرير...
محرمة ٌ واحدة كانت تكفي.. لتنقذ الموقف...
رنيم جروج
14/3/2013
أشكرك جزيلا على مرورك مرورك كاسم له مشاركات سابقة عديدة يعنيني جداً لأكون صريحة ليست المرة الأولى التي أكتب فيها إلا أنها المرة الأولى التي أنشر فيها أعجبني شرحك لتفاصيل ما أحببت في كتابتي أعجبتني جداً وأخجلتني في نفس الوقت الملاحظة الأخيرة ترفع القبعة لمتواضعين أمثالك أستاذ...
لك الله أستاذة : تصوير رائع وحبكة جميلة من الناحية الفنية . والخيال خصب ومستمد من واقع مرير نعيش لحظاته بكل تفاصيلها .أحسنت الإضائة على الدوافع .رغم أن الموضوع كبير ويحتاج نقاش .وكانت الخاتمة رائعة جدا . فلقد ضحى بنفسه بسبب لفتة عادية من إنسانةلايعرفها . رائع تقبلي مروري . ملاحظة :: لم أقرأ لأحد بهذه الجرئة تصويره لهذه القضية لك ترفع القبعة احتراما
جميلة جداً و مشاركة رائعة. نسأل الله أن يحيمي سورية و جميع أهلها.
شكراً جزيلاً لك ولكلماتك أضيف صوتي لصوتك ودعواتك وأطلب من الله أن يحمي سوريا الحبيبة وأهلها الطيبين