syria.jpg
مساهمات القراء
قصص قصيرة
أزهار تنمو في الصقيع ... بقلم : جواد حمزة

- أمي ..

- نعم ..

- متى يعود أبي ..؟..

دوى صمتٌ ثقيل ، وذكرى برقت في أفق الذاكرة المرهقة فاكتوى بها القلب المحترق ، صمتٌ وحَيرةٌ ولا جوابَ حاضرٌ الآن ، انقضت البرهة إثر الأخرى حتى ولدت فكرة بسيطة فكانت كطوق النجاة من حيرة الجواب ، فقالها اللسان متلعثماً :


-  في الربيع .. حبيبتي ..

-  لماذا في الربيع ..؟ ..

-  لأن الربيع سيأتي بعد شتاء طويل ..

-  متى يعود أبي ..؟..

-  سارة حبيبتي ، عندما تكبرين ستعرفين كل شيء ..

- و أبي ..؟ ..

-كفى سارة ، سيرحل الشتاء مع صقيعه يوماً ، وسيأتي بعده الربيع وأزهاره ، وسيعود والدك ..

 

لم تجب سارة بل حدقّت بعينيها البرّاقتين في وجه أمها وشتى التساؤلات تراقصت في مخيلتها الصغيرة لولا أن شغلتها عنها دمعةٌ قد تسللت من عين أمها ، رفعتْ يدها الصغيرة ومسحتها ، فابتسمت الأم وضمتها إلى صدرها ، قالت سارة :

- لا تحزني يا أمي ، سيعود أبي في ربيع ما ..

قالت الأم :

 - آمل ذلك ..

 بسطتْ سارة كفيها الصغيرين وقالت :

 - يا رب ، من أجل أبي دع الشتاء يرحل بصقيعه والربيع يأتي بأزهاره ، لكن يا أمي متى يأتي الربيع ..؟ ومتى رحل ..؟ ..

 

 مسحتْ الأم بكفها رأس الصغيرة ، وقالت بصوت خافت كمن يروي حكاية ما قبل النوم لها :

 - كل أيامنا كانت ربيعاً ، لم تستطع نوائب الدهر طرده من حياتنا واقتلاعه من أعماقنا ، لكنه في ليلة ظلماء غاب بدرها غادر إلى  أقبية الأرض ، تأخر ، انتظرناه ، حلَّ صقيعٌ مكانه جمَّد أرواحنا وأمات قلوبنا، انتظرناه أياماً ، سنيناً ولم يعد ، لم نعد نسأل وأصبحنا نخشى السؤال عنه ، ... ذهب ولن يعود ..

 

هتفت سارة :

  - وأبي ..؟..

قالت الأم :

- سيعود صغيرتي ، سيعود في يوم ما..

-       متى ..؟..

-       قلتُ لك في الربيع ..

 

***

تتالتِ الأيام ثقيلة ..

تظهر الزهورُ رقيقةً في ركنٍ من حديقة المنزل فتجلس سارة بقربها ، تناجيها ، تلاعبها بأصابعها الغضة وتسألها بعذوبة :

-  الربيع أتى بكِ كما تقول أمي .. فأين أبي ..؟..

تهزها لتلقى جواباً فلا تسمع لها صوتاً ، تبكي وتركض إلى أمها شاكيةً :

- الزهور نَمَتْ يا أمي في الحديقة والربيع أتى وأبي لم يعد بعد ..

تقبلها الأم وتقول لها :

- عندما تكبرين ستحدثكِ الزهور عنه وستقول لك متى سيعود ، فقط عندما تكبرين ..

 

***

وتتالت السنون ..

عشقت سارة الزهور وتغلغل رحيق حبها في ثنايا فؤادها الواثب وقلبها المترع حياةً وشبابا، جعلت من ركن الحديقة ذاك عالمها الزاخر بالخيالات والأحلام والأمل ، وباتَ الربيع هو الحبيب والمبتغى والمشتهى والمرتقب الذي تناجيه كل يوم بلوعةٍ وشوق ، لم تعد تسأل أمها منذ زمن طويل ، ولم تعد تناجي أزهارها وتسألها عن الربيع ، ولم تجد أبلغ من الصمت لغةً تناجي به حبيبها الغائب وزهورها النضرة ..

 

وكل عام كانت تحتفل بأزهارها وفق طقوس تعنيها وحدها ، تعتني بها ، ترويها وتحميها من العابثين وتزيل من حولها مايعيق نموها نحو ضياء الشمس ، وتجلس بقربها لساعات وساعات طوال وتحادثها بصمتها المعتاد آلاف الأحاديث ، تخصَّبت أحلامها معها حتى كبرت وعمَّت أرجاء الكون حيث فرشته بالأزهار التي تحب وأغرقت أقبيته المظلمة رحيقاً طيباً وحياةً لاموت بعدها ، وكانت في كل حلم تحلمه تنادي الربيع الغائب والربيع الدائم الذي سيعيد والدها إليها ، ذاكَ الذي مازالت تحتفظ له بآخر مشهد شاهدته فيه قبل زمن طويل مضى :

في ليلةٍ عاصفةٍ ، عنيفةٌ رياحها وغزيرٌ مطرها ورعدها يصم الآذان وبرقها يضيء الأفق ، بدا الموقف يهطل رعباً ساعة أن اختبأت في حضن أمها مذعورةً عندما اقتحم البيت عدة بعض الرجال كالشياطين كانوا وساقوا والدها أمامهم ..

 

مازالتْ سارة تعتني بزهورها وركن حديقتها في كل عام ، ومازالت تنتظر الربيع بلهفة كلهفة لقاء حبيب غائب ..

ومازالت تنتظر عودة أبيها ..

2013-07-14
التعليقات
جواد حمزة
2013-07-17 10:57:21
شكراً استاذ محمد عصام
أستاذ محمد عصام المحترم .. كلامك شهادة أعتز بها ... شكراً لك ..

سوريا
محمد عصام الحلواني
2013-07-16 19:33:48
الأستاذ المحترم جواد حمزة
حوار رائع وابداع في التصوير . أجمل الأزهار وأكثرها وداعة و تنبت في الصقيع والثلج بين ركام الصخور زهرة السوسن . لعل الأيام ستنبت أزهار سوسن ونار نج تعمر بلادي من جديد . إبداع وتألق تقبل مروري

سوريا