آخر مرة التقته فيها، كانت في زيارة خاطفة للبلد.
ترددت كثيراً في تلبية استجداء قلبها وصراخه، لكنها لم تقاوم أخيراً نداء لافتة كبيرة كتب اسمه عليها، فعرجت على الذكرى مروراً به، كما لتطمئن عليه (أو لتطمئن على بقايا ذكريات لها أودعتها في قلبه قبل الرحيل )
طرقت يد قلبها على الباب بلهفة، وفتح الحب.
كبر في غيابها وكأن العمر اجتاحه مرة واحدة، ولون الشعر الأبيض رأسه، ذبلت عيناه بعض الشىء، واستبدل الضحكة المجلجلة بابتسامة مجاملة .تساءلت !!هل هي معالم السن، أم معالم الهجر؟ التي غيرت ملامحه إلى هذا الحد ؟؟؟؟؟
امتزجت بوجهه ملامح الدهشة والفرح والحزن وخليط متناقض من المشاعر، أقترب منها كما ليحتضن كل سني غيابها عنه، لكنها مدت يدها (دافعة بكلتي يدي سنوات العذاب الماضية سيل الحنين المتدفق نحوها وكأنها تقول بأعلى صوتها لا) لايمكن للماضي أن يعود أبداً...فامتدت اليد الهرمة لتصافح الخيبة.
تأملها كثيراً بابتسام ، وكل شيء بداخله كان يبكي بحرقة ،لقد تغيرت ونضجت، وقصت شعرها الطويل ، استبدلت كحلها الأسود بلون أخضر هادئ يشبه لون عينيها وكأنها خلعت كل ما يشي بحبها له لتنسى .
هي أصبحت أكثر أنوثة وأقل اندفاعاً، هي في التاسعة والعشرين متفتحة. وتتساقط أوراقه الخامسة والأربعون معلنة بدء خريف العمر.
مرة أخرى جاءته متلبسة دور أمه لتطمئن عليه وتمسح بيد قلبها على رأس مآسيه
فياله من حضور، محمل بالحنين، فتحت حقائب الذكريات أمامه وصمتت، كما لتترك له كل الكلام، كان لابد له أن يقول كل ماأراد قوله يوما، وكل ماأرادت سماعه.لكنها سمعت أكثر بكثير مما أرادت وكان وقع اعترافاته مدوياً يفوق كل توقعات قلبها ، لقد انتظر طويلاً هذا اللقاء وكان لابد له أن يرد للحب اعتباره
قال لها يومها أنه افتقدها كثيراً، وبكاها كثيراً، اعترف ذلك الرجل الحديدي أنه أحبها حد البكاء، وأنه مرض كثيراً في غيابها وهمهم اسمها في غيبوباته. واعترف أنه بحث عنها كثيراً، وتمسك بخيط كل خبر سمعه عنها، ولكن كل الخيوط المؤدية إليها كانت مقطوعة .قال لها في ذلك اليوم لماذا حصل كل هذا. وأسمعها كل ما استجدت سماعه لسنوات، بل وأكثر مما تمنت أن تسمعه.
هي لم تخلع صمتها في ذلك اليوم ، ولم تنزل دموعها أمامه، كانت فقط تتفرج عليه وعلى نفسها ...
تتساءل بذهول صامت هل أنا هي تلك الفتاة التي كانت ما إن رمى لها هذا الرجل ببعض فتات الحنان، حتى ارتمت على صدره وبكت لساعات ؟ هل هو نفسه ذلك الرجل الذي تفنن بهجرها وكسر روحها وإذلال الحب الكبير بكل عنجهية الإستخفاف لسنوات؟
أهي نفسها التي أمضت سنين ودموع وحرقة حتى استيقظت يوما ووجدت نفسها هكذا ؟؟
فشل هو في الامتحان الأخير، واعتزل الحب...
نساء كثيرات مررن عليه بعدها، لكن إحداهن لم تدس عتبة قلبه قطعاً، احتفظ به لها كما ليرد لها اعتبار كرامة قلبها المهدورة على عتباته لسنوات، رغم يقينه بأنها لن تعود إليه أبدا ..
ولم يتسلل غيرها إلى مسام جلده كما تسللت هي، ومشت مع الدم في شرايينه،
كان لابد أن يعترف لها أنه عشقها يوماً وكان مستعداً لدفع حياته ثمنا لرؤيتها مرة واحدة كي يقول لها أحبك ...تلك الكلمة التي لم تحظى بها أبداً منه قبلاً ،إلا اليوم.
ويعتذر لكبرياء دموعها ويموت بعدها ،،فلا شيء يعنيه وليس لديه هدف بعد في هذا العمر سوى أن يلتقيها مرة ويلقي أحمال ذنوبه عن كتفي قلبه ليرتاح.
لقد أفرغ روحه أمامها وعاد خفيفا كريشة، لا يهم إن جاءه الموت بعد اليوم فلقد كتب وصية قلبه ، كان يخشى أن يأتيه موته فجأة ويدفن ذلك السر معه وتتعذب هي لسنوات أخرى حزناً عليه.لكن ليس بعد هذا اليوم.
رافقتها عيناه حتى توارت نهائيا ًعن نظره، عاد إلى مكتبه منكسراً
حمل رأسه بين كفيه، وبكى دمعة رجولة حارقة،
وتلاشي كل مافي رأسه،
ماعدا هي !!!
لوحة تضج بالحب النقي .واسكمال لما سبق يرتقي عن كل ما قيل قبلا . رقي الكمال . ونزهة في ساحة الخيال . سيدتي لن يكتب هذا الصدق إلا واحد من إثنان . صاحب القصة أو فنان مبدع جاوز المعقول في رسم اللوحات الرائعة .تقبلي مروري