قرر أمين معلوف في كتابه الهويات القاتلة: أن الانتماءات الضيقة تتعاظم على حساب الانتماء الجامع إذا تعرضت لتهديد.

يعتبر سؤال الهوية من الأسئلة الإشكالية الدائمة، ومن النادر أن تجد اتفاقاً موحداً حول معنى الهوية ومعنى الانتماء بين البشر، فكل منا يصنف دوائر انتمائه وفق اعتقاده ووفق مفهومه للهوية، وبالرغم من أن هذه الهويات والانتماءات تتقاطع ولكنها لاتلغي بعضها بعضاً، فإنها في سوريا في هذه الأيام قد تصبح متنافرة متباعدة، بحيث يبدو أنه لايمكن جمعها مرة أخرى.

علينا أن نعترف جميعاً بالشرخ الكبير الذي أصاب الهوية السورية اليوم، فبينما كان الادعاء قبل الأحداث الأخيرة أن الوطن هو الهوية الجامعة لكل السوريين، بغض النظر عن انتماءاتهم، نجد اليوم أن هذا التعريف لم يعد دقيقاً لعدة أسباب، أحدها اختلافنا اليوم حول تعريف الوطن.

أدرك تماماً مدى فداحة هذه التوصيفات ومدى جرأتها، لكنكم تدركون جيداً كم هي واقعية اليوم، تدركون جيداً أن ما اعتقدنا يوماً أنه وطن لكل السوريين، بات يضيق على البعض، بغض النظر عن موقفه من الأحداث الحالية. بل إني أزعم أن سبب تفجر هذه الأحداث هو تجاهلنا لتعريف الوطن، وفشل الدولة العربية بعد الاستقلال بشكل عام في بناء الهوية الوطنية الخالصة، التي تقدم مصلحة الوطن على مصلحة أي فرد فيه.

إن أحد أسباب الأزمة اليوم يكمن في عدم إدراكنا لهذه الفجوة قبل الأحداث، وإن كنا ندرك بشكل جزئي أزمتنا في تعريف الهوية السورية، لكن لم ندرك وجود أزمة في تعريف الوطن. بكلمات أخرى لم نتوقع وجود هذا التباين في تعريف الوطن. قبل هذه الأحداث جرت نقاشات عديدة حول الهوية السورية، لكن ليس حول الوطن. وكنت أقول دائماً أن الهوية السورية تعاني من خلل عند ربطها بالحدود السياسية الموجودة حالياً، فلو أن قلم سايكس وبيكو حاد قليلاً بضعة أمتار عند رسم حدود دول المنطقة، لكانت بعض القرى الحدودية خارج سوريا، أو لأصبحت داخله، فكيف تصنع الحدود هذه الهوية، وكيف تفصل هذه الحدود بيني وبين إبن عمي في القرية المقابلة على الحدود فيصبح هو لبنانياً أو أردنياً يستهدف الهوية السورية؟
 

لا أعني من كلماتي هذه تفضيلي للحزب السوري القومي الاجتماعي، ولست معجباً بأفكاره، بل أطرح هذا الكلام لتوضيح مدى عمق أزمة الهوية السورية عند البعض، ومدى عمق أزمة تعريف الوطن عند الكثير اليوم.
لايمكن تجاذب أطراف الوطن، وعلى الجميع إن كان يدعي حب وطنه، ويقدم ذلك على أي شيء، أن يتقبل أن يكون في سدة الحكم من لايعجبه فكرياً أو سياسياً، طالما أن هذا الحاكم أتى للحكم بطريقة نزيهة، ويعبر عن شريحة معتبرة من المواطنين. حتى لو كانت 51%، دون أن ينسى أنه حاكم لكل المواطنين، وليس لمن انتخبه فقط، حاكماً لهم في وطنهم، وليس مالكاً لوطنهم أو مالكاً لهم.

فهل يمكن إعادة تعريف الوطن اليوم، بدون ربطه مع هيئات وأحزاب وأفراد؟ هل أفراد الوطن قاصرون فعلاً عن إيجاد أرضية مشتركة واسعة تستوعب كل انتماءاتهم الذاتية، دون أن تلغي إحداها الأخرى؟ هل وصلنا لمرحلة متأخرة في الشقاق السياسي بحيث لم يعد هناك بالإمكان إيجاد تلك الأرضية؟

بالتأكيد ليست هي مسألة سهلة إيجاد أو تشكيل هذه الهوية اليوم، ولايجوز الإفتراض أن تشكيل هذه الهوية هو قرار يصدر، والأهم لايمكن اعتبار هذه الهوية شيئاً ساكناً وثابتاً، بل هي أمر متحرك متغير، يتغير تعريفها بتغير أجيال المواطنين، وبتغير نظرتهم لذواتهم وتاريخهم، وبتغير تفاعلاتهم مع الأفكار الوافدة إليهم من تجارب الإنسانية المختلفة، ولا أعتقد أن المسألة بحاجة لطرح أمثلة لتأكيد صحة هذه المقولة.

غير أن الصحيح أيضاً أن هناك جزءاً آخر من هذه الهوية ثابتاً لايتغير، ثابتاً بثبات التاريخ الذي مر على الوطن، وثابتاً بأثر هذا التاريخ، وبأثر من صنع هذا التاريخ، فلا يمكن دفن هذا الجزء الثابت من الهوية أو تجاهله، مقابل الجزء المحدث منها والمتغير. هذا الدفن هو الذي سيراكم الكبت الذي سيولد الانفجار بعده. هذا الجزء المدفون هو ما يعتقده البعض أنه انتماءات هامشية أو ضيقة، في الحقيقة وكما ذكرنا أعلاه ستتعاظم هذه الهويات في حال كبتها وضغطها ومحاربتها.

ذكر لي أحد العراقيين الأكراد نقلاً عن مدير هيئة اجتماعية كردية تهتم بتعليم اللغة الكردية بين الأطفال أنه قال: في زمن صدام حسين والذي كان يحارب الأكراد حتى في لغتهم كنا نحرص أشد الحرص على تعليم الأولاد اللغة الكردية، لكنه تفاجأ أن أطفال الأكراد في الولايات المتحدة يتحدثون بين بعضهم باللغة الإنكليزية، وتفاجأ أكثر أن الأهل لم يكونوا حريصين على تعليم أبنائهم اللغة الكردية.
 

هل هو مناخ الحرية وعدم تهديد الهوية هو الذي يطفئ كل نزعات الطائفية بكل أشكالها فلا تشعر أنك مهدد في وطنك؟ لابد أنه كذلك. وبالتالي تحتاج لتبحث عن وطن، قد تجده في ذاتك أو في قريتك أو مدينتك، لكنك لن تجده في قرية أو مدينة في محافظة مختلفة التركيب العرقي أو الديني عنك. إذا كان هذا صحيحاً فهذا يعني أزمة في تعريف الوطن.
 

تعتبر الولايات المتحدة وكندا وأستراليا من المجتمعات التي عملت على دفن هذه الهويات الجزئية عبر الانفتاح عليها، وعدم محاربتها، بل وعززت على إظهارها كمثال لتنوع المجتمع بعكس بعض المجتمعات الأوربية، صحيح أنه في السنوات الأخيرة ضيقت الولايات المتحدة وأستراليا على بعض المهاجرين من أصول محددة، لكن سأضرب مثالاً قد يبدو بسيطاً لكنه عميق الدلالة.

في الولايات المتحدة، وفي المستشفيات والصيدليات بالتحديد، ستجد لافتات كبيرة بلغات متعددة (بعضها باثنتي عشرة لغة)، مفادها أن هناك مترجماً مستعداً لمساعدتك في التعامل مع الأطباء والصيادلة لفهم حالتك الطبية، وهي خدمة مجانية. جوهر الأمر هنا أنهم لايعتبرون حديثك بلغة أخرى تهديداً للهوية الوطنية الأمريكية أو الكندية مثلاً. بل أكثر من ذلك، ففي كاليفورنيا مثلاً، تعتبر اللغة الإسبانية لغة رسمية، وتصدر كل الوثائق الرسمية هناك باللغتين الإنكليزية والإسبانية. في تكساس تجد الكثير من لوحات الشوارع تكتب بالإنكليزية والإسبانية.
 

لماذا لايشكل هذا تهديداً لهويتهم، في حين تهدد لغة أخرى غير العربية ابنة للمنطقة (كالكردية مثلاً) كياناتنا وهويتنا القومية، ولانعتبر اقتحام اللغات الأجنبية لحياتنا تهديداً خطيراً لهويتنا الوطنية؟

إن كل هذا يعيدنا للسؤال الأهم الذي قد تكون الإجابة عليه اليوم هو المدخل لحل سليم لما يجتاح بلدنا من أزمات، وإن بدا المخرج من هذه الأزمات أوسع من أن تسده إجابة هذا السؤال لوحده، لكن من الأكيد أن هذه الإجابة ستفيدنا كثيراً في مرحلة مابعد الأزمة.