مائة عام مرت أو تكاد على ولادة الفكر القومي العربي، وأمتنا العربية لا تزال ترزح تحت وطأة الظروف نفسها التي أدت إلى نشأتها، من تفتت وانهيار ثقافي واجتماعي واقتصادي وتخلف تقني وعلمي عن ركب حتى دول العالم الثالث...

ما ينوف عن مائة عام انصرمت منذ أن قام المعلمون الأوائل كبطرس البستاني ومحمد عبده والأفغاني والكواكبي بالتبشير بها والدعوة إليها ومنذ أن حمل لوائها المفكر الكبير ساطع الحصري وأطرها بنظريته الشهيرة حتى يتردد صداها ويتتلمذ على يديه ومن بنات أفكاره من صاغوها بوجهات نظر مختلفة، فمنهم من زاوجها بالاشتراكية كحال عفلق والأرسوزي والخطيب ومنهم من اعتبر أنها أشمل من ذلك لتضم بين أجنحتها الليبراليين والماركسيين وغيرهم...
العربي: هو من تكلم العربية أو عاش على الأرض العربية أو آمن وناضل للدفاع عن القضايا العربية!! هذا التعريف المستخلص من حديث النبي محمد (ص) بقوله: "ليست العروبة منكم بالأب أو بالأم، إنما هي باللسان، من تكلم العربية فهو عربيّ"
الفكر الرومانسي الذي غلف الفكرة القومية والعنفوان الذي عصف بنفوس الشباب آنذاك اصطدم بواقع مر، فانتصاراته الجزئية ضد بندقية المحتل بسبب ظروف المحتل نفسه الذي أنهكته الحرب العالمية وجهت الدول العربية نحو الاستقلال،لكن هذا الاستقلال وما أعقبه من التهاب الشعور القومي لم يدفع العرب إلى الوحدة، وإنما دفع الدول العربية لترسيخ الواقع الذي خلفه الاستعمار وأعني التجزئة مما أدى بعد ما ينوف عن خمسين عاماً إلى تباين في شتى مجالات الحياة العربية على مختلف الأصعدة
لقد الآباء في أجيالهم شباباً محطماً مقيداً مهدداً يائساً وبائساً... شباب حطتمهم ظروفهم الاقتصادية وقيدتهم تقاليد بالية وهددتهم أطماع الأمم المتكالبة، يئسوا من بطش الترك وأعوانهم بهم، ومن غدر الحلفاء الذين أداروا لهم ظهر المجن... حفر الحصري وأترابه في تاريخ المنطقة، ونقبوا في اللغة ودرسوا الجغرافيا وأبحروا في علوم الأديان ونشأتها
زرعت البذرة لتكون شجرة حرية ولكن لا ليقطف ثمارها الشعب بل الرعيل الأول من القوميين الذين كانوا رعاة للفكر خانوا الأمانة، فاستغلوا نضال الشعب العربي من أجل الانفكاك من الاستعمار والتحرر من عجلة التبعية والانتداب، الذين استغلوا تضحية الشعوب العربية على مذبح الحرية ويصلوا على ظهر المواطنين ممتطين أحزاباً أو جيوشاً أو مرتزقة إلى السلطة باسم والحرية والاستقلال والوحدة ليرسخوا من فور وصولهم سلطة مبنية على الديكتاتوريات تكوي الشعوب العربية المختلفة من العراق فسورية فمصر فليبيا فالجزائر فتونس فالمغرب بسياط القهر والظلم والخنوع والألم ونار التشريد وعدم الاستقرار...
كم من ثورة قامت باسم القومية وكم من حزب ادعى النضال في سبيلها وحيت استلم زمام الأمة كان من أول المنقلبين على مبادئه وأهدافه...
تمضي عقود وعقود ولا تزال الأمة العربية ترزح تحت نفس الآلام والعذابات، فلا زلنا متخلفين عن محيطنا العالمي ولازلنا نعاني الفقر والعازة ننتظر معونات مختلفة من الأمم التي استعمرتنا بالماضي ولازلنا مختلفين عن محيطنا حتى مع الدول التي كان لنا معها تاريخ مشترك من العذابات والقهر كإيران وتركيا!!
التباين العربي هو شيء متجذر في نفوسنا نحن الشعوب، فإن آمنا بالعروبة وحدة جغرافية وتاريخية ولغوية ودينية وأسلمنا جدلاً بمصالح قومية تعلو وتسمو عن المصالح الإقليمية للكيانات والتي أضحت بالمناسبة فردية لحكامها وسياسييها وجنرالاتها!! إذا آمنا بكل ذلك وسلمنا به!
فكيف نبرر التباين الثقافي العربي؟
بين دول الخليج مثلاً وبلاد الشام والرافدين واليمن، أو بين بلاد النيل أو المغرب العربي أو الصحراء الكبرى!!
إقليمياً كل له هويته الثقافية المتباينة عن الآخرين من خلال الظروف التاريخية التي ألمت بشعوب تلك المناطق!
حتى أن التباين اليوم يتعمق ليتجاوز كونه ثقافياً أو لغوياً، بل حتى التركيبة الاجتماعية بارتباطاتها الأسرية والعائلية والمناطقية نفسها إلى تغير، فالعلاقات الاجتماعية في بلاد الشام تختلف عن مثيلاتها في بلاد الرافدين والخليج واليمن التي لا تزال تحكمها عادات وتقاليد تختلف شكلاً ومضموناً عن بلاد الشام، وكذلك الأمر بالنسبة لبلاد النيل والمغرب العربي ناهيك عن العلاقات الدينية والارتباطات المذهبية والمللية الأخرى...
المثير في الأمر هي تجربة أمم أخرى كإيران والصين والهند، بالرغم من مختلف الأزمات والتهديدات الخارجية والداخلية إلا أنها استطاعت أن تتغلب على الصعاب لتأخذ لنفسها مكاناً بين الدول الكبرى، وتنهض اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً في حين لا تزال الدول العربية تبحث عن أسلحة بسيطة لتدرء عن نفسها خطر الذئب الصهيوني المتمثل بدولة نووية هي إسرائيل قامت على أساس عنصري وإرهابي بحت... في حين لا نزال نبحث عن طريقة لدرء صفة الإرهاب على دولنا وبشكل منفصل!

خلاصة الكلام، ونحن نرى استقلالنا يذوي أمام عيوننا في العراق ولبنان وغيرها من الدول العربية، ما هو القوميين العرب والقومية العربية التي ولدت ولم تر النور، بالأحرى أنها وئدت في مهدها هل سيكتب لها أن تسود يوماً ما أم أنها ستبقى في غرفة الإنعاش
فعم نبحث، هل نبحث عمن وأد القومية العربية أم نتصارع فيمن يتزعمنا أم سنبقى نؤمن بشعارات نخليها من مضامينها، أم أننا يجب علينا أن ننهض في سبيل إصلاح ما خرب وبناء مستقبل أفضل!