لم أحب الأطباء يوماً!!
صحيح أن جدي رحمه الله كان طبيباً و صحيح أني أعمل في شركة كل زملائي فيها من الأطباء الذين و بعد خمس سنوات من العشرة باتت تربطني بهم علاقات صداقة و أخوة من أروع ما يمكن..
و صحيح أن لدي صديقات و قريبات طبيبات من مختلف الاختصاصات إلا أني حتى اليوم أكره زيارة عياداتهم و أعتبر الذهاب إلى المشفى و لو لزيارة صديقة لي أنجبت مولوداً ضرباً من الأعمال الشاقة فتمرعليّ الدقائق التي تستغرقها زيارتي و كأنها سنوات طويلة أصاب خلالها بحالة من الخرس الذي من المستحيل أن يصيبني في الحالات العادية حتى و إن كنت في مجلس عزاء (فأنا معروفة بكوني "جرارة" أُنطق الحجر الذي رفض أن ينطق و دون أن أقول له أنطق أيها الحجر) و بعد أن تنتهي الزيارة أخرج و كأني قد خرجت من سجن ضيق كان يكتم على نفسي فأتنفس بعمق و كأني أتعرف على الهواء لأول مرة في حياتي..
كل من حولي يعرفون أني مهما كنت مريضة أرفض الذهاب لعيادة الطبيب و حين أصاب بنزلة (كريب) أفضل أن أتناول أدوية وصفها لي جدي رحمه الله منذ أكثر من خمسة عشرة عاماً على أن أزور عيادة طبيب ما مهما كنت أحترم هذا الطبيب على الصعيد الشخصي.. و الحمد لله فأنا قليلاً ما أمرض (ليس بفضل صابونة ديتول بل ربما بفضل كوب الحليب، البيضة و حبة زيت السمك التي كانت أمي تحشرها في فمي كل صباح طوال سنوات طفولتي) كما أني معروفة بنشاطي و حيويتي و قدرتي على تحمل ضغوط العمل و المتاعب اليومية و هذا ما جعلني أبتعد أكثر عن زيارة المشافي و عيادات الأطباء بوصفي زبونة -عذراً- أقصد مريضة..
في الفترة الأخيرة شعرت أني لست على ما يرام حيث صرت أشعر بتعب و وهن دائم إلى جانب الشكوى من صداع مزعج للغاية و ميلي للنوم لساعات طويلة و هو ما لم يكن يحدث من قبل هذا عدا عن تشوش بالرؤية و تشتت بالفكر..
حاولت تجاهل هذه الحالة التي عزوتها لضغوطات العمل و مسؤولياته المتزايدة و لكني منذ أيام تنبهت إلى أن هذه الحالة ليست آنية كما كنت أحاول أن أقنع نفسي بل حالة مستمرة مستمرة لأنها لا تزال تلازمني منذ أكثر من أربعة أشهر و الصداع يتزايد أكثر فأكثر و هكذا و بعد أن استشرت طبيب الشركة قررت أن أجري بعض الفحوصات على مبدأ مبدأ "مكره أخاك لا بطل" و "أهون الشرين" و بالرغم من اتخاذ هذا القرار منذ أسابيع إلا أني ماطلت طويلاً قبل أن أبدأ بتنفيذه على أمل أن (تضيع السيرة) و لا أضطر للذهاب و لكن أهلي من ورائي و زملائي في العمل من أمامي فأين المفر!!
*********************************
قررت أن أبدأ بأهون الشرور فقمت بعمل تحليل دم للتاكد من أني لا أشكو من فقر دم و بالفعل توجهت إلى المخبر بكل شجاعة و دفعت 280 ليرة لتصلني النتيجة بعد بضع ساعات على جهاز الفاكس تعلمني بأن كرياتي البيض و الحمر موجودين بعددهم الكامل و أنهم بخير و سرعة التسفل بأحسن حال (و ما حدا رح يسبقها) و كل صفيحاتي و (الحشاكيل) و (الحباشات) الأخرى التي في دمي بألف ألف خير.. فكانت هذه الخطوة الأولى على طريق الصحة و العافية..
*********************************
كخطوة ثانية و في اليوم التالي توجهت إلى عيادة طبيب العيون و قبل أن أقول للطيب "مرحبا" ناولت الممرضة 700 ليرة كشفية و رغم أني وصلت في الموعد المحدد تماماً إلا أنه كان يتوجب عليّ الانتظار، لكن الحق يقال أن هذا الطبيب (مذوق) فهو يراعي الأذواق المختلفة لمرضاه إذ أنه وضع مجلات فنية إلى جانب المجلات المملة التي عادة ما تجدها في عيادات الأطباء و كأنها زي موحد مفروض من قبل وزارة الصحة و نقابة الأطباء و يجب أن تتواجد في كل العيادات و كأن المريض بحاجة للمزيد من الملل و الكآبة أثناء انتظاره لموعده.. و هكذا و ما إن فرغت من قراءة مجلة واحدة حان دوري (حين ذهبت مع شقيقي لعيادة طبيب الأسنان منذ فترة اضطررت لقراءة 3 مجلات قبل أن يحين دورنا!!) .. في غرفة المعاينة اضطررت لارتداء نظارة الفحص (أسميها نظارة الكراكوزاتي بسبب منظرها المضحك) و راح الطبيب يبدل و يغير بالعدسات ثم قطر لي من قطرة ما انتظرت بعدها نصف ساعة كي تصبح الصورة (مهزوزة) و بعدها عدت إلى كرسي الفحص ليغير و يبدل العدسات قبل أن يطلب مني أن أعود في اليوم التالي فقلت له ممازحة: "هالمرة طالعة من عندك و الصورة مهزوزة بقى إذا المرة الجاية رح ينقطع الارسال خبرني حتى جيب معي عصاية و كلب"..
طبعاً في اليوم التالي توجهت إلى العيادة من جديد حيث فحص لي عيوني و وصف لي عدسات لاصقة أخبرني أني أستطيع أن ارتديها ملونة إن أنا أردت (شعرت أنه عم يضحك على عقلي متل الأولاد الصغار حتى إلبس العدسات بس أنا كشفته) و طلب مني استعمالها لمدة شهر كي نقوم بعدها بعمل تشطيب بالليزر لم يخبرني كم ستكون كلفته بعد!!
خرجت من عيادة الطبيب و توجهت مباشرة إلى بائع النظارات لأشتري العدسات كأي مريضة "شطورة" تلتزم بتعليمات الطبيب و هكذا انتهى يومي بدفع 700 ليرة ثمناً للعدسات المؤقتة و سائل التنظيف..
*********************************
موعدي مع طبيب الأسنان كان الخطوة الثالثة و هناك علمت بأنه يتوجب عليّ القيام بصيانة عامة تنظيف و تحشاية و خلافه بمبلغ قيمته خمسة آلاف ليرة سورية لأعود إلى البيت و أنا أشكو من لمعة تضرب على أعصابي كلها هذا عدا عن حرماني من تناول العشاء في تلك الليلة بسبب الألم..
*********************************
الخطوة الرابعة و الأخيرة كانت زيارتي لعيادة طبيب العصبية و هو ما كنت أخشاه أكثر من سواه فأنا على قناعة تامة بأن الداخل إلى العيادة العصبية مفقود و الخارج مولود خصوصاً حين وصلت إلى العيادة و رأيت الحالات المختلفة للمرضى الذين كانوا بالانتظار..
نساء و رجال و أطفال من مختلف الأعمار.. بعضهم مثلي دخل إلى العيادة واقفاً على قدميه و البعض مستنداً على مرافق جاء معه و البعض الآخر محمولاً مما جعلني أتهيب دخولي إلى غرفة الفحص التي رحت أنظر إلى بابها المغلق و أتخيل ما يمكن أن يخفيه خلفه من مصيري المجهول..
و يمر الوقت عليّ طويلاً طويلاً و أنا أنتظر سماع اسمي و رغم أني وصلت حسب موعدي تماماً إلا أني اضطررت للانتظار ساعة كاملة قبل أن يحين دوري.. جلست في غرفة المعاينة و إذا بالباب يفتح و بدل أن أرى الطبيب كانت أمامي الممرضة التي راحت تأخذ مني بيانات مختلفة ثم اضطررت للانتظار ربع ساعة أخرى قبل وصول الطبيب الذي شرحت له عن حالتي ثم سألني بضع أسئلة و راح يدون المعلومات على بطاقتي ثم صمت قليلاً قبل أن يخبرني بأن ما يحدث عادي باستثناء التشوش و حالات الشرود التي قال عنها بالحرف الواحد (هالشغلة ما عجبتني أبداً) مما جعل قلبي يهبط من مكانه و لوني يختفي و مع هذا قلت له و أنا أضحك ضحكة مصطنعة أخفي خلفها خوفي: "عن جد عم تحكي دكتور و لا عم تمزح" فقال لي: "لا و الله عن جد مشان هيك رح أعمل لك تخطيط دماغ" طبعاً في تلك اللحظة لم أعد أستطيع الوقوف على قدمي خصوصاً حين جائت الممرضة و أخبرتني أن كلفة الكشفية و التخطيط 3800 ليرة (تكيتها بفرد تكة) قبل أن أدخل إلى غرفة التخطيط..
كانت الغرفة مظلمة و يتوجب عليّ أن أستلقي على سرير فحص ليتم توصيل أسلاك برأسي لتقوم بتخطيط دماغي و هناك ناولتني الممرضة نصف حبة لتساعدني على النوم فأخبرتها أنني عادة ما أجد صعوبة بالنوم و أني بحاجة لحبة كاملة حيث أني حين اضطررت مرة لإجراء عملية جراحية استيقظت أثناء العملية بالرغم من البنج إلا أنها لم تصدق ما قلته إلا حين عادت إلى الغرفة بعد نصف ساعة و هي تتوقع مني أن أكون في سابع نومة و وجدتني (مفنجرة عيوني متل البقة) عندها طلبت مني أن آخذ نفس و أخرجه من فمي بقوة لمدة خمس دقائق مما سيساعدني على النوم و مع هذا تفاجأت الممرضة من جديد حين عادت ووجدتني مستيقظة و هنا سلمت المسكينة لقدرها و طلبت مني أن أكتفي بإغماض عيني و الاسترخاء و عدم الحركة و هو ما قمت به فعلاً..
استمرت عملية التخطيط لنصف ساعة كاملة راحت خلالها الأفكار السوداء ترقص في دماغي المخطط يمنة و يسرة.. لم يبق مرضاً إلا و تخيلت أنه موجود في رأسي من الصرع و انتهاءً بالأورام الخبيثة (بعيد الشر عن قلبي) و لكن مع هذا وجدت وقتاً أفكر به بالثلاثة آلاف و ثمانمائة ليرة التي طارت خلال ثوان لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة و في نفس الوقت كنت خائفة من أن (ينسوني) في غرفة التخطيط الهادئة و المظلمة حيث طلبوا مني أن أظل ساكة و أن أطفئ جهازي الخليوي مما يعني أنني في حال نمت من المستحيل أن يوقظني شيء و في حال تم نسياني في العيادة فسأضطر لأن أظل (منقوعة) في غرفة التخطيط موصولة بالجهاز طوال يومي الخميس و الجمعة كونهما يوما عطلة العيادة!! هذه الفكرة وحدها ساعدت على جعلي مستيقظة متنبهة لكل حركة حولي و أنا أحاول أن أستشف من أحاديث الممرضات ما إن كانوا على وشك المغادرة أو أنهن باقيات..
لا تتخيلوا كم فرحت بصوت (شحطة) حذاء الممرضة التي سمعتها تقترب مني و عرفت أنها ستنتزع الأسلاك من رأسي و التي سألتني إن كنت قد تمكنت من النوم فأجبتها بالنفي..
انتقلت لغرفة أخرى حيث سيقوم الطبيب بقراءة تقريري و هناك جلست و كأني على رأسي الطير الذي حل محل الأسلاك..
وصل الطبيب الذي أخبرني أن التخطيط لوحة فنية فسألته ممازحة إن كان يستطيع أن يعرف بماذا كنت أفكر فأخبرني أنهم ينفقون الملايين على أبحاث تفسر معاني هذه الخطوط و تترجم أفكار المريض فقلت له أني أنا نفسي صاحبة الرأس و الخطوط لا أعرف بماذا كنت أفكر.. ثم أخبرني أن كل شيء بخير رغم وجود بعض الكهرباء حسب قوله و بما أني لم أفهم ما يقصده بالكهرباء أبديت استغرابي من أنه عثر على كهرباء في رأسي رغم أن كل (فيوزاتي طاقين) من جهة و البلد تعاني من أزمة كهرباء من جهة ثانية!! (يظهر أنا سبب الأزمة و مخبية كل الكهرباء براسي).
المهم في النهاية لم أفهم بالضبط ما بي و رغم أنه أكد لي أني بخير إلا أنه كتب لي مجموعة أدوية اشتريتها من الصيدلية القريبة منه حسب طلبه و كلفتني ألف و ستمائة و خمسون ليرة سورية فقط..
*********************************
في اليوم التالي أخبرت طبيب شركتنا و الذي هو زميل لي عن الأدوية و الوصفات و أخبرته بما حصل معي (من طقطق للسلام عليكم) و أفرغت جام غضبي عليه و كأن المبلغ المرقوم الذي دفعته قد دخل إلى جيب المسكين و أخبرته بمدى امتعاضي من طبيب العصبية الذي لم يكلف نفسه عناء القيام بفحص سريري و أرسلني موجودة إلى غرفة تخطيط الدماغ و كأنه رأى في عيوني لمعة الجنون هذا عدا الأدوية الغالية التي وصفها لي..
و بينما أنا أرغي و أزبد و ألوم وزارة الصحة و نقابة الأطباء و كل أطباء سوريا الذين تحولوا إلى جزارين لا يرون في المرضى إلا حقائب و (جزادين) متحركة على ساقين كان زميلي يضحك و حين سألته عن السبب أخبرني أنه الأدوية الموصوفة لي هي أدوية لمعالجة الصرع و الاكتئاب!! و هنا فقدت ما بقي من دماغي المخطط!!
يعني بالأخير طلعت مصروعة و مكتئبة كمان؟؟
طبعاً انتشر خبر صرعي و اكتئابي في المكتب و لم يبق أحد من أصدقائي إلا و وجد في حضرة جنابي مادة دسمة لنكاته حتى أن أحدهم قرر وضعي داخل قفص تحاشياً لأي نوبات قد تصيبني و الآخر وجد أنه يفضل أن يكون هناك مسافة أمان بيني و بينه تحسباً لأي نوبة محتملة..
*********************************
رحلة مكوكية أنفقت خلالها راتبي كله و على الفاضي يعني بالعربي يالفصيح (ما طلع فيني شي) باستثناء هذه المساهمة التي (طلعت براسي) رغم الصرع و الاكتئاب و الكهرباء لذا أمانة يا جماعة و الأمانة صعبة يلي عم تنقطع عنده الكهرباء يخبرني لحتى مد له "بريز" سبيل على روح أمواتي لله بالله...
ختاماً..
خلال أسبوع واحد و من أجل صداع و تشوش بالرؤية أنفقت مبلغ 12130 ليرة سورية فهل حقاً كنت بحاجة لكل هذه الأمور؟؟ ماذا لو أني لم أكن أمتلك هذا المبلغ؟؟ ماذا عن حال من يعانون بالفعل من مرض بحاجة لعلاج؟؟ و كم من الممكن أن يكلف العلاج إن كان التشخيص وحده قد كلفني كل هذا المبلغ علماً أني حتى هذه اللحظة لم أعرف ما مرضي)؟؟ ما الذي يضمن للمريض أن هذه الخطوة ضرورية لتشخيص مرضه أو أنها مجرد عملية نتف للريشات الباقيات على المريض؟؟ و هل يتضمن قسم أبقراط و كل أخلاقيات مهنة الطب بند يحتم على الطبيب تجاوز الفحص السريري أو تقليص مدته إلى الحد الأدنى و الاستعاضه هنه بالصور و التحاليل و ما عداها من الأمور التي تكلف المريض (بقرة جحا) بهدف (خورفة) و (خوزقة) المريض و تأمين العمولات من أصحاب المخابر و مراكز التصوير ما لم يكن الهدف هو (نجر) رقبة المريض ضمن عيادة الطبيب مباشرة كما حدث معي بقصة التخطيط؟؟ و هل سنسمع قريباً عن مشروع قانون لحماية المريض على غرار حماية المستهلك كون الطبيب قد بات تاجراً؟؟ و في حال كنت مكاني عزيزي القارئ أتراك كنت ستفرح حين تعلم أنك تكلفت كل هذه الكلفة و لكنك في النهاية كنت بصحة و عافية أم أنك كنت ستتمنى لو أنك كنت مصاباً بمرض يستحق كل هذا العناء و هذه الكلفة التي تكلفتها؟؟ و أخيراً برأيك عزيزي القارئ هل من الطبيعي أن يمتد الصداع من رأسي ليشمل جيبي و هل تنصحني بمراجعة الطبيب أم أظل على (عماها) أفضل؟؟
دمتم بخير و عافية و أدام الله تاج الصحة على رؤوسكم جميعاً و أبعد عنكم شر الخورفة و كل ما له علاقة بوزارة الصحة و مشتقاتها من أطباء و صيادلة و مشافي و مخابر على اختلاف أنواعها..
