أهدي هذه الكلمات التي تعبر عن مجموعة غير مترابطة من الخواطر الخيالية للأخ الغالي
أيمن ابن جنين الأبيّة، وإلى جميع الإخوة الفلسطينيين.
كان المنظر بديعاً من حيث أقف، فالمكان هنا مرتفع نسبياً بحيث
أستطيع رؤية الكثير من ملامح القدس، كيف وصلت إلى هنا؟ هذا لا يهم، المهم هو أنني
كنت أحاول أن أشبع ناظري من هذا المكان الذي لم أفكر حتى في أحلامي بالوصول إليه.
أنا على سقف المسجد الأقصى، والتوقيت هو الفترة التي يكون فيها
الظلام حالكا قبل بزوغ الفجر، والهلال يبدو في أشد حالاته تقوساً، يستأنس بأشباهه
من الأهلّة على قمم المآذن والقبب، هذا الحوار الصامت الذي اعتمد النور لغة له بدأ
منذ حوالي 1431 سنة هجرية، وما زال مستمرا إلى الآن.
من على سقف الأقصى رأيت كنيسة القيامة، وقد تسرّب ضوء خافت من
إحدى نوافذها ليشي عن أمر القس الذي آثر قضاء ليله يصلي طالباً الرحمة من ربّه من
أجل هذه المدينة المنهكة، من أجل أتباع يسوع وأتباع محمد عليهما السلام، والذين
قضوا وهم يدافعون عن القيامة والأقصى.
من على سقف الأقصى رحت أخاطب الأقصى، قلت له: هل تسامحني؟ أرجوك
فإنني بأمس الحاجة إلى صفحك عنّي فهلّا سامحتني؟ عانقت قبته الداكنة، وألصقت خدي
بها، هذه القبة التي طالما لامس شغاف قلبي رؤيتها بالصور، وأخذت أنشج بالبكاء، بكاء
يبدو معه بكاء الثكالى أضحوكة، لا أعرف ما حلّ بي في هذه اللحظة، وكأنني أفرغ جميع
ما قاسيت في حياتي بدموع لم ترحم مقلتاي من كثرة انهمارها، شعرت أنني بحاجة ماسة
إلى هذه اللحظة التي أعيشها الآن، وأحسست بالأقصى يحتضنني ليزيح عني ما ألمّ بي من
تدفق لمشاعر متضاربة لا أدري لها سبباً، هل هو خجلي من الأقصى نفسه كوني أحد أبناء
أمة لم تدافع عنه سوى بشحذ الألسنة، واستجداء المعونة سواء من ربها أو حتى من أمم
أخرى؟ أم هو شوقي للأقصى الذي حلمت أن أصلي الفجر بين رحابه؟
كان يتردد في عقلي كلمات من قصيدة الشاعر الفلسطيني المعاصر
تميم البرغوثي (في القدس) يقول فيها:
لا تبكِ عينُكَ أيها المنسيُّ من متنِ الكتابْ
لا تبكِ عينُكَ أيها العَرَبِيُّ واعلمْ أنَّهُ
في القدسِ من في القدسِ لكنْ
لا أَرَى في القدسِ إلا أَنْت.
لو رآني أحد في تلك اللحظة لظن أني فقدت عقلي، ولكن أنّى له أن
يعرف أنني لا أعتبر أن الأقصى عبارة عن مسجد له قيمة روحية فقط، كنت وما زلت أشعر
بـأن هذا المسجد له روح، روح تضحك للأطفال الصغار وهم يلعبون في باحة المسجد،
يطاردون الحمام الذي قرر أن يسايرهم في لعبتهم فيطير لمسافة قريبة ثم يحط على الأرض
مجدداً لتستمر المطاردة.
روح زغردت لكل شهيد كان في يوم من الأيام طفلاً يلعب مع الحمام،
ثم حمل على الأكتاف ليزف إلى جنة لم تعد تطيق صبراً لفراقه.
روح كانت شاهدة على أنهار الدماء التي تدفقت في أحياء هذه
المدينة العتيقة على مرّ العصور، ولو حفرنا بئراً ربما وجدناه ممتلئاً بدماء زكية
ممسكة، وأخرى خبيثة آسنة، دونهما برزخ لا تبغيان.
نزلت من مكاني لأدخل إلى الأقصى، فإذا بي أشم عبق جميع الأنبياء
الذين اجتمعوا ليلة الإسراء، وسرحت لأرى بعين الخيال سيدنا يوسف وهو يقبل يد جده
إسحاق، والذي كان بدوره يمسح على رأس حفيده، وموسى ممسكاً بعصاه ومتأبطاً ذراع أخيه
هارون، ناهيك عن يونس الذي كان يروي تفاصيل حادثة بطن الحوت لسيدنا يعقوب، وعينا
يعقوب لا تغفلان أبداً عن يوسف ابنه، ورأيت سليمان وقد فاضت عيناه بالدموع وهو
يستمع إلى الحمائم التي دخلت لتسلم عليه، وتروي له مآسي هذه البقعة الطاهرة من
الأرض، أبعد كل العزّة التي كانت في زمانه، تصل الأمة إلى هذا الانحدار.
و كان أبو الأنبياء إبراهيم يبش في وجه خاتمهم محمد عليهما أفضل
السلام، والبشر باد على وجهيهما في هذه الليلة، وما أعظمها من ليلة.
ما أعبقها من رائحة شممتها ها هنا، رائحة الأقصى وقد امتزجت
بأريج الأنبياء، أخذت نفساً عميقاً، ثم جلست مستنداً إلى المحراب، وغفوت قليلاً،
ولم يوقظني من غفوتي سوى صوت همس المآذن توقظ بعضها بعضاً، ليعلو النداء الخالد،
الله أكبر، الله أكبر .....