نحن ( آل قرقوعة) مثل كل العائلات في تخطيطستان؛ اضطررنا إلى تخصيص فردٍ منا بوظيفة
تعقب وملاحقة ومتابعة معاملاتنا الإدارية، فالفرد من آل قرقوعة ـ وسواها من الآلات
ـ لديه يومياً مراجعاتٌ متعددةٌ ومتكررةٌ ومتواترةٌ ومتلاحقةٌ ومتتابعةٌ ومتجددةٌ
ومستمرةٌ لدوائر مختلفة:
دفع فواتير الهاتف، والمياه، والكهرباء، مخالفات سيارة غيابية، و وجاهية، تظلم من
مبالغ خيالية لفواتير الكهرباء أو المياه، مراجعة شعبة التجنيد، تسجيل ولادة أو
وفاة أو زواج أو طلاق في النفوس، تجهيز أوراق للاشتراك في مسابقات للتعيين في
الدولة، حصر إرث، دعاوى مختلفة في عدة محاكم، معاملة المازوت الشهيرة، استدعاءات
مدير المدرسة لولي أمر الطالب، معاملات قروض مختلفة، تسديدات لأقساط القروض، ترخيص
لبناء أو محل تجاري أو مزرعة أو سيارة، دفع رسوم سيارة، مراجعة مديرية المالية
لاستخراج براءات ذمة أو دفع ضرائب أو رسوم أو للتظلم منها، مخافر الشرطة لحل مشاكل
مع الجيران، معاملات تقاعد وإحالة على المعاش و إصابات عمل، لا حكم عليه،
......إلخ.
لهذا ـ كجميع العائلات الأخرى ـ فرغت عائلتنا واحداً من أبنائها لهذه الأمور، وكنت
أنا ذاك المفرغ لمتابعة وملاحقة وتعقب معاملات عائلتي.
وسبب اختياري؛ أننا (آل قرقوعة) عصبيون جداً، وكنت أهدأ إخوتي، وتعرفون كم من
الرويّة يجب أن تتوافر فيمن توكل إليه مهمة مناكفة ومناقشة ومجادلة ومحاججة موظفي
تخطيطستان.
اشترينا حقيبة، و أقلعنا بالعمل.
في
البيت خصصت لي عائلتي هاتفاً، و غرفةً مستقلةً مليئةً بالكتب و الملفات، و ضمت
مكتبتي الصغيرة مقارنة بغيرها:
ـ
54893215465879525487844544878454514754897 قانوناً.
ـ
569821212111174123325465987412554544564897 بلاغاً.
ـ
4548789748947154323232565878761654840216544 قراراً.
ـ
45496387878745142121433565456484517774545454316 تعميماً.
أما أجري فكان مئة ليرة تخطيطستانية، تعطنيه عائلتي لقاء كل معاملةٍ أنجزها، وهو
جيدٌ، إذ استطعت بفضله ـ خلال عامٍ واحدٍ فقط ـ شراء سيارةٍ وخمسة بيوتٍ بعيون
الشيطان.
تزوجت من ثلاث، نعم، ثلاثاً، و الرابعة على الطريق، وسوف أسكنها شقتها الخاصة أسوةً
بزوجاتي الأخريات، أما الشقة الخامسة سأبقيها لي، كي أستخدمها لسهرات العزابية، و
ولائم أولي الأمر وأصحاب القرار في بعض المؤسسات الحكومية.
أبنائي أربعة، وقد درسوا جميعاً في الجامعة باختصاص (سيكولوجيا الموظف) وهم:
صبيان: طابع قرقوعة و مصنف سحاب قرقوعة، و بنتان: سطنبة قرقوعة (متزوجة من سائق
وزير) و شكالة قرقوعة (مخطوبة لوزير).
صداقاتي مقصورةٌ على علاقات المهنة (مديرون ـ معقبو عائلاتٍ أخرى ـ موظفون ـ أذنة )
ولقاءاتنا تتم عادةً في المقاهي و ردهات المؤسسات وأبهائها، وتستطيعون تخيل
أحاديثنا، هي كأحاديث جميع أبناء المهن الأخرى، تنصب على همومنا المشتركة و
معاناتنا والصعوبات التي تواجهنا.
كنا نجتمع خمسة أو ستة معقبين حول طاولةٍ أو أمام باب مديرٍ، نتداول في شؤوننا،
ونتجادل في مواضيع شتى، مثلاً: قبل يومين كنا نناقش تساؤلاً طرحه علينا أحد
أصدقائنا الموظفين، هو: هل نرتشي لنعيش، أم نعيش لنرتشي؟
تنوعت الآراء، واختلفت، وتباينت وجهات النظر، لكن أطرف ما طرح بهذا الخصوص كان رأي
شرطي مرور يجلس إلى طاولةٍ مجاورةٍ لطاولتنا مع مجموعة من السائقين، وقد اقتحم
الحديث دون دعوة منا، ربما لأنه يهمه، فقال:
ـ
هناك ناس ترتشي كي تنتشي.
نطق جملته تلك بثقة من يقول القول الفصل، ثم عاد إلى حديثه مع أصدقائه السائقين
الذين كانوا يهزون رؤوسهم طرباً وموافقةً على حكمته وفلسفته البالغة العمق..حسب
رأيهم. أعجبتنا إضافته، وبعد أن شكرناه عليها تحول حديثنا إلى اتجاهٍ آخر، هو تفسير
نشوة المرتشي.
الجزء الأكبر من نقاشاتنا كان يدور حول الصعوبات التي تواجه أحدنا في معاملةٍ ما،
فنقترح، ونقلب الآراء بخصوص المشكلة التي تواجه زميلنا، وقد نتحدى بعضنا، أينا سوف
تتحقق توقعاته، و في اليوم التالي، بمجرد حضور صاحب المعضلة، نسأله بشوقٍ و ترقب:
ـ
خبرنا ! شو صار معك؟
فينتشي المنتصرون لأن توقعاتهم أو اقتراحاتهم أثبتت صحتها، و يدفع المخذولون ثمن
خذلانهم، و هو عادةً طقم شاي للحاضرين على حساب الخاسرين.
آخر مراهنةٍ ربحتها كانت حين أكدت لزميلي (شرشوح سراق الطوابع) أن رخصة استيراد
فراشي الأسنان المستعملة من اليابان لن تنجز، لأن وزير الفراشي سوف يصدر قراراً
يمنع استيرادها، بسبب وجود كمياتٍ كبيرةٍ كاسدةٍ من فراشي الأحذية في مستودعات
شركته.
ربحت الرهان، فقد عرض التلفزيون إعلاناً يبين مزايا استخدام فراشي الأحذية في تنظيف
الأسنان، وكان هذا دليلاً على صحة تحليلاتي، و فور عرض الإعلان اتصلت بشرشوح سراق
الطوابع، و قبل (الألو) و المرحبا قلت له شامتاً:
ـ
شفت الإعلان تبع الفراشي؟
ما
شرحته سابقاً ضروريٌّ كي يعرف الجاهلون أهمية معقب معاملات عائلةٍ ما، وظروف عمله
وأهمية دوره في المجتمع و مكانته، إذ في دول أخرى تتباهى النساء بأبنائهن الأطباء
أو المهندسين، أما عندنا في تخطيطستان فإن المرأة إن سألها أحدٌ: "ماذا يعمل ابنك؟"
أو "من خطب ابنتك؟" تجيب بكل ما أوتيت من أنفةٍ واعتدادٍ وزهوٍّ: " معقب معاملات آل
فلان..".
لذلك، ربما عليكم استيعاب الحيثيات التي جعلتني ـ أنا معقب معاملات آل قرقوعة ـ
أقْدم على صفع والدي، فقد يصادف أن بعض الناس لا يعرفون موقعي في نقابة معقبي
معاملات العائلات، و لم يقرأوا مقالاتي في صحيفة (حل المشكلة بأسلوب البرطلة) أو
يتصفحوا موقعنا الإلكتروني: (مع التيار..ماع ماع ماع) و رابطه:
http:// www. maa-altayar-maa-maa-ma
لعلكم تتساءلون الآن: لماذا أقدمت على ضرب أبي و أمي؟
هاكم ما حدث، تاركاً لكم الحكم على تصرفي:
والدي في الخامسة و السبعين من عمره، و أمي تصغره بأربع سنوات، كانا يومها (يوم
صفعتهما) يتحدثان عن معاملة حصر إرث والدي بعد أن يتوفى، وهذا أمرٌ عاديٌّ في
عائلتنا و في جميع العائلات، فالحديث عن المعاملات و القوانين و القرارات الصادرة
أو المتوقع صدورها يشغل مساحة 99% من وقت أي سهرةٍ أو لقاءٍ أو زيارةٍ، و 100% من
تفكير جميع الناس في تخطيطستان، حتى أن الوسواس الخناس بدأ يشكو ضيق المساحة
المخصصة لوسوساته في صدور التخطيطستانيين.
شرحت لهما الإجراءات، و أخرجت مفكرتي كي أحدد الأيام التي يكون بوسعي التحرك فيها
بالمعاملة:
ـ
يفضّل أن تموتا معاً، كي لا نكرر إجراءات تثبيت الوفاة وحصر الإرث، ويناسبني جداً
أن يكون ذلك بعد أسبوعٍ من الآن، وإن تأخرتما سيؤدي ذلك إلى طول أمد إنهاء
المعاملة، بسبب عطلة الأعياد الطويلة في الدوائر الرسمية.
سألني والدي:
ـ
هل هناك قرارٌ أو تعميمٌ يجبرنا على طريقةٍ محددةٍ للموت؟
فأجبته:
ـ
لا ..لا يوجد، هذا عائدٌ لكما، وتستطيعان اختيار الطريقة التي تشاءانها، أنتما
أحرارٌ في ذلك.
وافقت أمي قائلةً:
ـ
و الله يا زلمي الولد معو حق، خلينا نموت سوا أحسن ما نعزب هالصبي بالمعاملة مرتين.
فكر والدي قليلاً، و سألني:
ـ
كم ستأخذ على المعاملة؟
ـ
كالعادة؛ مئتي ليرة، لأنها عن معاملتين.
رفض أبي المبلغ، وأصر أن لا آخذ أكثر من مئة ليرة، أما أخوتي فوقفوا إلى جانبي،
مؤيدين حقي في تقاضي مئتي ليرة، فالميتان اثنان، وهذا يحتاج معاملتين، معاملةٌ لكل
منهما.
لم
يتراجع والدي عن موقفه برغم شرحي المسهب لوجهة نظري، و هدد بتسليم المعاملة لمعقب
معاملاتٍ آخر إن لم أقبل.
كررت تمسكي بموقفي:
ـ
لا تهددني، هذا حقي، أصلاً .. لن يقبل أحدٌ بما تعرضه علي، لمن ستعطي المعاملة؟
لشرشوح سراق الطوابع أم لفلتان برغي خرازة أم لمضروب نسيان ختمو؟ هؤلاء جميعاً لن
يقبلوا بأقل مما أطلبه...ثم، ألا تفكر في سمعة العائلة؟ ماذا سيقول الناس عن آل
قرقوعة إن سار بالمعاملة غيري؟
صرخ والدي في وجهي، تخيلو!!! ثم تناول كأس ماءٍ وضربني به، فحلت الكارثة.
كارثةٌ لا أكبر منها من قبل ومن بعد، إذ أصابت الكأس صورةً جماعيةً لأعضاء الحكومة
التخطيطستانية، و هشمتها، و لشدة حزني على ما أصاب الصورة؛ ضربته، ما أثار احتجاج
والدتي، فضربتها هي الأخرى.
أستحلفكم بأعز معاملاتكم الإدارية و قراراتكم، ألست محقاً بتصرفي؟ ألا (يمون) معقب
معاملات العائلة على والده أو والدته بكفٍّ أو كفين؟
المهم:
لا
شك أن اللهفة أضنتكم، و الفضول ينهشكم لمعرفة إن كنت أخذت حقي أم لا.
اطمئنوا ! اطمئنوا ! أخذت مئتي ليرة، فقد مات أبي وأمي معاً في الموعد المناسب، و
أتممت معاملتي وفاتهما خلال يومين، و تجنبنا فترة العطلة الطويلة...و الحمد لله.
تنويه:
توخياً للدقة أشير إلى صدور تعميمٍ لم أتمكن من أرشفته بمكتبتي الصغيرة لانشغالي
بمعاملتي الوفاة، لذلك فإن عدد التعاميم الفعلي ليس ما ذكرته سابقاً، بل:
ـ
45496387878745142121433565456484517774545454317 تعميماً.