التشفير بين
حق الإتصال وقدرة المشاهد على الدفع
كرنفال الكرة الشبابية العالمية نموذج
درج مؤخرا"
موضوع شراء بعض القنوات التلفزيونية النقل الحصري للبطولات والمسابقات الرياضية وقد
بلغت أسعار الحقوق التلفزيونية للأحداث الرياضية العالمية أرقاما" خيالية في
الأعوام القليلة الماضية حتى بدا شبح الأزمة واضحا" في أروقة كرة القدم وأوساط
محبيها, وتسارعت الأحداث.
إذ
أعلنت عدة شركات مالكة لحقوق الأحداث الرياضية الكبرى إفلاسها الأمر الذي إنعكس على
الفيفا وملفاتها المالية وهذا يعني أن قلة من المشاهدين هم القادرون على المتابعة
فيما الغالبية غير قادرة على الدفع حائرة بين محطة أرضية تدبرت أمرها أو باحثة عن
فضائية أجنبية تنقل المباريات أو بعضا" منها دون تشفير أو محاولة لإيجاد وسائل غير
مشروعة لفك التشفير دون إنفاق.
فكيف تغيرت
معطيات الأمور وأصبح إتحاد إذاعات الدول العربية عاجزا" عن تغطية أسعار حقوق بث
الأحداث الرياضية؟ وكيف يمكن للمشاهد العربي أن يتابع الأحداث الرياضية في ظل
الصعود الخيالي لأسعار حقوق نقل الأحداث الرياضية المهمة؟ وهل التشفير تعتبر تجربة
فاشلة في منطقتنا لأسباب المستوى الإقتصادي والتقني والأداء التسويقي والضغوط
الشعبية وإحتياجات المنطقة وإستنزاف الموارد والإنعكاسات السياسية والإجتماعية بين
أفراد المجتمع وبروز الفوارق الإقتصادية الفجة بينهم وحكر الترفيه على فئة محدودة
وفقدان المضامين القومية والتربوية الهادفة للإعلام؟ تابعوا معنا:
بين الدخل والمصروف
تعاني
الفضائيات العربية الحكومية والخاصة على حد سواء من مشكلات مالية عديدة فالدخل لا
يغطي المصروف الذي يزداد عاما" بعد عام نتيجة المنافسة المحمومة بين الفضائيات في
سوق الإعلام على زيادة عدد القنوات وزيادة ساعات البث وهي مفارقة تؤكد فشل الرهان
على الإعلان وحده , من هنا فقد إتجه عدد مؤثر من الفضائيات للتشفير , حتى يمكن
القول بأن معركة التشفير هي معركة الفضائيات القادمة.
التشفير
للقنوات الحكومية أيضا"
ومن الخطأ
تصور أن معركة التشفير هي معركة تخص الفضائيات التجارية الخاصة فقط, والتي لا تحظى
بدعم حكومي منتظم كما هو الحال بالنسبة إلى الفضائيات الحكومية, فثمة مؤشرات تفيد
بأن عمليات الخصخصة التي طالت إقتصاد بعض الدول العربية بدأت تقترب من قطاع الإعلام
, في هذا السياق تطرح أفكار بشأن ترشيد الإنفاق على الإعلام والبحث عن مصادر جديدة
للتمويل منها التشفير , حتى أصبحت بعض القنوات الحكومية مشفرة , ولا تقدم خدماتها
إلا للمشتركين. هكذا غدا التشفير رهان المستقبل أمام الفضائيات التجارية والحكومية
رغم أن الأولى هي الأكثر إهتماما" وإحتياجا" لكسبه , كما أنها سبقت الفضائيات
الحكومية في التفكير والعمل على تطبيق نظم التشفير والإشتراك.
معركة
التشفير
شعر مشجعو
اللعبة الشعبية الأولى بأن التشفير منعهم من متعة مشاهدة مباريات فريقهم الوطني,
وبدا لبعض النقاد أن الفضائيات تخوض معركة التشفير عبر ملاعب كرة القدم في أوسع
ساحة للتواجد الشعبي المثير والإهتمام الإعلامي الكبير خاصة وأن هناك تنافسا"
محموما" بين الفضائيات العربية على الحصول على حق نقل وإذاعة مباريات كرة القدم في
أهم البطولات العربية والأجنبية , عربيا" بدأت القضية مع كأس القارات وإكتملت مع
كأس الأمم الإفريقية وإستمرت مع كأس الأندية أبطال العرب وأخيرا" وليس آخرا"
نهائيات كأس العالم للشباب ( تحت 20 سنة ) في هولندا التي إحتكرتها جميعا" محطة
تلفزيونية مشفرة مما أدى إلى إنحسار مساحة المشاهدة بدرجة كبيرة الأمر الذي أنذر
بأن المشاهد العربي وجد نفسه أمام حيرة إذا لم يتمكن من متابعة كأس العالم المقبلة
في ألمانيا 2006 حيث سيكون مضطرا" للإشتراك في إحدى القنوات الرياضية العربية
الخاصة ( مكره أخاك لا بطل).
نسور سورية مشفرون
وقد أخذت
قضية عدم قدرة التلفزيون العربي السوري على نقل مباريات منتخبنا الوطني بكرة القدم
للشباب الذي حقق نتائج مشرفة في كرنفال الكرة العالمية الشابة في هولندا حيزا" من
الأخذ والرد في أوساط المجتمع السوري بشكل عام والشارع الرياضي على وجه الخصوص فقد
فشلت كل المحاولات الجادة للسماح بالنقل حتى على القناة الأرضية وتقول أوساط
الفضائية التي إشترت حق النقل الحصري أن المبلغ المطلوب دفعه لتصل المباراة إلى
المنزل لا يتجاوز قيمة بطاقات الدخول للمباراة وقد أحضرناها إليك لتتميز في حين لجأ
المهتمون برؤية معشوقتهم المستديرة إلى المقاهي والمطاعم الذين وجد أصحابها أيضا"
ضالتهم في إستثمار الحدث وإستغلال التشفير.
خطاب أنصار التشفير
وبعيدا" عن
المعاني والرموز العاطفية لموضوع نقل مباريات الفرق العربية فإن أنصار التشفير
يقدمون خطابا" متماسكا" للدفاع عن موقفهم ينطلق من أن المشكلات المالية التي تواجه
الفضائيات تخلق صعوبات جمّة تعرقل إمكانات التطور الفني والتقني والقدرة على نقل
الأحداث بما في ذلك مباريات كرة القدم وبالتالي فإن حصول الفضائيات على دخل من
الإشتراك أو حتى المشاهدة بأجر سيزيد من مواردها ويساعد على تطوير خدماتها كما
سيدعم الإنتاج الفني والثقافي العربي فضلا" عن الرياضة العربية حيث سيرتفع سعر
البرامج والمضامين العربية كما ستحصل الإتحادات والفرق الرياضية على عوائد أكبر
مقابل إذاعة المباريات وإنعكاسها على أسعار اللاعبين ضمن أنظمة الإحتراف الرياضي
الذي يعتبر الإعلام جزء منه وشراء حق النقل الحصري له ثمنه الباهظ أيضا", ويرى
أنصار التشفير أن إحتكار نقل مواد أو برامج معينة هو ظاهرة عالمية فرضتها تطورات
صناعة التلفزيون وآليات الإعلام المحترف التي أنهت عصر المشاهدة المجانية إذ أن كل
السلع والخدمات لها سعر, وبنفس القدر فإن مايقدمه التلفزيون هو خدمة ينبغي أن يكون
لها سعر يجب أن يسدده المشاهد ويبرهن أنصار التشفير على ذلك بأن الكثير من
الفضائيات أصبحت مشفرة.
بين الحق والقدرة
أعتقد أن
التشفير والمشاهدة بثمن يثيران إشكالية التناقض بين الحق والقدرة , أي حق المواطن
في الإتصال بغض النظر عن المستوى التعليمي أو الإجتماعي , والقدرة المالية على
الإشتراك في القنوات المشفرة أو الدفع مقابل مشاهدة بعض القنوات أو حتى البرامج فمن
الثابت أن أغلب العامّة ليس لديهم القدرة على دفع الحد الأدنى المطلوب للإشتراك
أولمشاهدة برنامج أو مباراة كرة قدم وعليه تصبح مشاهدة الفضائيات ميزة إجتماعية
لفئات أو شرائح محدودة أو نوع من الترف الإجتماعي غير المتاح لأغلبية الناس وربما
يدخل في سياق الإنفاق الإستهلاكي وضريبته ( التي دأبت الحكومة على فرضها مؤخرا")
مما يخلق فجوات معرفية وإعلامية بين المشاهدين تضاف إلى مجموع الفجوات التعليمية
والإجتماعية الموجودة أصلا" بين شرائح وفئات الجمهور داخل كل بلد عربي.
قضية
خاسرة
وعليه فإن
الفضائيات قد تضرر وربما لا تستطيع حسم المعركة لصالحها وذلك بوجود بدائل أخرى
متاحة أمام المشاهدين العرب تتمثل في الفضائيات الحكومية وبعض الفضائيات التجارية
التي تحرص على إستمرار البث المفتوح وتتنافس على تقديم مضامين وبرامج جيدة لتوسيع
قاعدة مشاهديها وجذب مزيد من الإعلانات لذلك من غير المنتظر أن تختفي الفضائيات
المفتوحة في المدى القريب أو المتوسط لا سيما أن بعضها يرتبط أو ينطق بإسم الحكومات
التي تعتقد أن وسائل الإعلام بما في ذلك التلفزيون لها أدوار تعليمية وتربوية
وترفيهية يجب أن تقدم للمواطن العربي بالمجان وذلك خدمة لأهداف التنمية , ورغم ضغوط
العولمة والإتجاه نحو الخصخصة فإن الإعتقاد السائد هو أن الإعلام يرتبط بالأمن
القومي ويمثل أحد رموز وجود الدولة ومن ثم فمن المستبعد أن تضحي الحكومات العربية
بسلطة وتأثير الإعلام على عموم مواطنيها بل وعلى الجماهير العربية وستحرص بأن تظل
قنواتها مفتوحة وبالمجان لجميع المشاهدين ورغم الطابع الرسمي والدعائي أحيانا"
للفضائيات الحكومية إلا أنها ستمثل بديلا" معقولا" أمام مشاهدي الفضائيات جنبا" إلى
جنب مع الفضائيات التجارية المفتوحة والتي تحرص على تطوير ماتقدمه من برامج ومضامين
لإثبات تميزها وبالتالي توسيع قاعدة مشاهديها وزيادة حصتها من الإعلان ويمكن القول
أن بعض القنوات الحكومية والتجارية المفتوحة تقدم برامج ومضامين في نفس مستوى
القنوات المشفرة بعبارة أخرى فإن الفضائيات المشفرة لم تخرج فيما تقدمه عمّا هو
سائد في الفضائيات المفتوحة.
وأخيرا"
لكن هل يعني
ذلك أن الفضائيات العربية المشفرة ستخسر المعركة؟
الإجابة قد
تكون محيرة فقد خسرت بالفعل المعركة وكسبتها في آن معا" بمعنى أنها كسبت مصدرا"
جديدا" للدخل وحددت جمهورها في قطاع قادر إجتماعيا" على المشاهدة غير المجانية
للتلفزيون لكنها ربما خسرت بعض المعلنين ( في المنطق الإقتصادي) وبعض الرصيد
الإيجابي الخاص بدورها التعليمي والثقافي والترفيهي بين أبناء الضاد , وأخيرا"
والمؤكد أنها خسرت أغلبية مشاهدي الفضائيات أي خسرت الجمهور العام وربحت جمهورا"
خاصا" من القادرين على الدفع ومن المتوقع أن تنحسر معركة التشفير في دوائر هذا
الجمهور بين عدة فضائيات مشفرة بينما ستظل الفضائيات المفتوحة بغض النظر عن
حساباتها السياسية أو الإقتصادية متاحة لكل المواطنين العرب القادر وغير القادر
وأعتقد بضرورة إستمرار هذه القنوات المفتوحة فالإعلام مثل التعليم يجب أن يكون
كالماء والهواء وفق المقولة الشهيرة لطه حسين ( متاح لكل المواطنين بالمجان).
المهندس حنا
عطاالله
من مساهمات القراء