ذنبها الصمت والمسالمة والعيش في وهم الأمن، كلّ عملية حياد هي مشاركة في عملية قتل يقوم بها ظالمٌ ما ضد مظلومٍ ما،إنّها تشكّل إغراءً لا يقاوم لممارسة الظلم عليها إنّها هي التي تثير غريزة الشر في نفوس الذئاب البشرية.

كوابيس بيروت – غادة السمّان

لو كان الفساد و الاستبداد و إفقار البلاد و العباد، و تهجير الكفاءات و خنق الإرادات، و ذلّ اللقمة و بذل الوعود الكاذبة، و سلب الكرامة و المتاجرة بالمقاومة، كلّ ذلك سبباً واحداً للثورة على النظام قبل الخامس عشر من مارس 2011، فإنّ لدى السوريين أجمعين ألف سببٍ للثورة عليه بعد ما فعله منذ ذلك التاريخ !

لقد تجاوزنا منذ زمن ضرورة الاعتراف بشرعية الثورة و حقّها في تغيير الواقع المخزي الذي عشناه لعقود حتى بتنا نظنّه قدراً لا مفرّ منه، تركنا خلفنا جدالات التشكيك في أصلها و فصلها و إن كان البشر قد رفعوا صوتهم معترضين على استمرار "ملك الزمان" الذي أطلق فيلته في طول البلاد و عرضها، فحيثما تجول في سوريا اليوم ستجد دليلاً على صدق النظام و على لسان رؤوسه في عبارةٍ واحدة فحسب: لن يسمح لها بالمرور و تحقيق أهدافها "مهما كلّف الثمن" من أرواح السوريين و وحدة الوطن و سيادته المستقلة. لقد سقط النظام و فقد شرعيته مع أولى قطرات الدم الطاهرة التي سالت في درعا، و بات تنحّيه عن المشهد مسألة وقتٍ و دمار خلال الانتظار، و لكن هل انتصرت الثورة !؟

أكبر نجاحات الثورة كانت في هدم جدار الخوف و حسم اتجاه عربة الزمن إلى حيث لا عودة إلى ما قبل بدئها، لكنّها لا تزال عاجزة عن النهوض من فشلها في عدة محاور نتيجة العديد من الظروف الموضوعية و الذاتية، فلم تتمكن بعد من زيادة رصيدها الشعبي إلى حدٍّ يطغى على المشهد العام، كما وقعت في ذات أخطاء النظام عندما راهن بعض من يتحكّم في مسارها على العنف المضاد لمواجهة عنف النظام بعد فشلهم في الاعتماد على التدخل الخارجي الذي يعتمد عليه النظام نفسه !

النظام يدرك أنّه لن يصمد أمام ثورة مهما فعل، فعمل على تحويلها إلى أيّ شيءٍ آخر يتقن التعامل معه و مهما استنزف موارده مستخدماً تطرفه الأمني: حرب، "جهاد مقدّس" بصيغةٍ طائفية، مؤامرة كونية برعاية أمريكية .. فهو لم يُجِد خلال تاريخه الطويل سوى استخدام القمع و المراهنة على عامل الوقت الكفيل بتغيير المواقف الدولية و إخماد القوى الثورية. لقد تضاعف عدد الشهداء بين نهايتي عامي الثورة أكثر من عشرة أضعاف ليس بسبب وحشية النظام فحسب و لكن أيضاً بسبب انسياق الكثير من الثوّار إلى حيث يريدهم أن ينتهوا و لو انتهى الوطن.

كما أنّ حرص النظام خلال حكمه على القضاء على كل شخصية قيادية و تغييب خصومه السياسيين أدّى إلى وصولنا إلى لحظة التغيير دون توافر كوادر قيادات وطنية فاعلة لها خبرةٌ كافية في الإدارة و الحكم و يثق بها كلٌّ من الشعب و القوى الإقليمية و الدولية، فحرصت هذه الأخيرة على استجرار العديد من الوجوه المفروضة على واجهة الثورة لضمان مصالحها المستقبلية، بما في ذلك القوى الحليفة للنظام التي أقنعت بعضهم بامتلاكها لمفاتيح الحل و قدرتها على إحداث التغيير المطلوب (هيئة التنسيق الوطنية و روسيا نموذجاً).

إنّ المعارضة التي ابتليت بها الثورة السورية و بكافة أشكالها لم تحمل ثقلها بل أثقلت عليها، فالمعارضة الخارجية التي لم يبق متسلّق طامع في السلطة أو ساعٍ خلف أجندته الخاصة إلّا و انضمّ إليها حاجباً للوطنيين الحقيقيين فيها، تميّزت منذ البدايات الأولى ما قبل تشكيل "المجلس الوطني السوري" و إلى ما بعد نشوء "الائتلاف الوطني لقوى الثورة و المعارضة السورية" بتشتتٍ فاضح و شعبويةٍ طاغية تقوم على التحميس و التهليل لقوة الشارع و أفعاله مهما تخبّطت و تعثّرت و تناقضت، و بدل أن يكونوا في موقع المسؤولية و قيادة النضال و توجيه الجهود لتصبّ في صالح الجميع يتّخذون موقع الحصان خلف العربة و يبنون أمجادهم الخلّبية على تضحيات البسطاء الصادقين! أمّا معارضة الداخل ففي غالبها مدجّنة أو من تصنيع النظام نفسه، و ما سلم منها بقيت عاجزةً عن الخروج من جمودها لتكون على مستوى آمال الناس و لتحظى باصطفافهم خلفها بل أدّت مواقفها إلى تعميق عزلتها عن الشعب الثائر.

حال المعارضة السورية قد يكون من أكثر العوامل التي أساءت إلى مسار الثورة، فهي تؤكّد على مخاوف المجتمع الدولي الذي لا يبالي بأرواحنا و مستقبل بلادنا، يستوي في ذلك القوى الحليفة للنظام كما المعادية له، فكلّ ما يهمّه هو ضبط استقرار منطقة حيوية جيوسياسياً و الحفاظ على مصالحه فيها، و لذلك نشهد منذ أشهر نوعاً من التعتيم الإعلامي على حقيقة الثورة و التركيز في وسائل الإعلام الغربية على إبراز النشاط العسكري للعناصر الجهادية بما يشبه حال أفغانستان إبّان هزيمة روسيا فيها، في محاولةٍ مستمرة لإثارة مخاوف الرأي العام العالمي من المستقبل المُنتظر الذي قد ينتج بيئةً حاضنةٍ لإرهاب عابر للقارات من جديد، و الهدف من ذلك تبرير غير مباشر للتقاعس الإنساني عن ممارسة المجتمع الدولي لمسؤولياته تجاه الوضع في سوريا. ليس الفراغ السياسي فحسب ما يقلق الغرب، بل عجز كل القوى السياسية المتواجدة على الساحة و من يقف خلفها عن ضبط فوضى السلاح الحاصلة اليوم، فبسقوط النظام لن يتوانى صغار رجاله عن استخدام ما استلموه منه ليقوموا بـ"الدفاع عن وجودهم" في شكل حربٍ أهلية مصغّرة، كذلك معضلة ضبط المجرمين الذين حملوا السلاح بصفتهم "لجان شعبية" أو "عناصر من ألوية الجيش الحر" و الذين لن يسلّموا بالسهل مصدر سطوتهم و سيعملون على قلقلة الأمن العام بكل ما يستطيعون، عدا عن النوايا المستقبلية لجبهة النصرة و فروعها التي تجد في الوضع الحالي غايةً لا مجرد وسيلة، و استحالة السيطرة على ترسانة الأسلحة الكيماوية و البيولوجية و تحديد اليد التي ستقع فيها !

تطوّر الأوضاع إذاً يفرض على "أولياء أمور" كل من النظام و المعارضة التفاوض على مستقبلنا نحن و بما يناسبهم هم ! يكفي أن نستذكر أنّ مواقف النظام يصرّح بها وزير الخارجية الروسي لافروف أكثر من أيّة شخصيّةٍ أخرى، و صفقة تبادل الأسرى التي فرضتها إيران رغم كل الإهانة التي تطعن النظام في صميمه و في جمهوره، أو أن نتحسّر على حال منكوبين يُولّى عليهم "والي سوريا" التركي، و ننظر في مواقف الدول المموّلة لتسليح الجيش الحر و ما تفرضه عليه من توجّهات تؤدي في مجملها إلى إطالة أمد الوضع الراهن و تقليص حضور الدولة السورية في محيطها الإقليمي و تقويض بنيانها الاجتماعي و الاقتصادي.

حدث و يحدث هذا كلّه منذ قرابة السنتين بينما يقبع الشعب، موضوع الثورة و أساسها، على هامش الأحداث. و عن أيّ شعبٍ نتحدث!؟ فالنظام لا يعترف سوى بالمؤيدين كسوريين وطنيين و ما تبقى ليسوا سوى خونة و عملاء، و المعارضون يئسوا من حال الموالين و تهليلاتهم لموتهم و معاناتهم فكفّوا عن عدّهم إخوةً و شركاء في الوطن ! لكنّ الشريحة الأهمّ و الأكبر هي تلك التي اعتادت الصمت و "الحياد"، و لو إلى حين أن يتضرّروا بشكلٍ مباشر من أفعال أحد الطرفين، تنتظر دون تبصّر لمجريات الأمور و منتهاها من سيبقى صامداً في الحلبة لتصفّق له و كأنّها تشتري أماناً كاذباً للأيام القادمة التي يخيّم عليها شبح التقسيم أو الحرب الأهلية. سلبيّة هذه الأغلبية الصامتة لا تقتصر على السماح لكلٍّ من الطرفين التمادي في ادّعاء تمثيلها و اغتصاب صوتها، بل أيضاً في استفحال عجز السوريين عن تحديد مستقبل بلادهم و مصيرها الذي بات في أيدي الغريب، و الوقت المهدور في انتظار نتائج لا رغبة حقيقية لمن ينتوون إصدارها في الاستعجال بالإعلان عنها خصوصاً مع علمهم بعدم رضى غالب السوريين عنها على اختلاف توجهاتهم.

هل يتحمّل هؤلاء الصامتون مسؤولية حيادهم بالكامل؟ هل ننسى أنّ النظام عمل على ترسيخ عقلية "الحيط الحيط و يا ربي الستر" و "اللي بياخد إمّي بناديله عمّي" خلال عقودٍ من حكمه؟ ألم يبطش بكلّ من حاول أن يرفع نظره للأعلى بتهمة ازدراء المقام الأسمى و إيهان عزيمة الأمة؟ ألم يحرص منذ بدء الثورة على تغييب الوطنيين و العقلانيين في السجون و القبور دافعاً بالراديكاليين الغاضبين إلى سدة المشهد المعارض ليقوموا بتنفير الناس و تثبيت قلوبهم على الخوف مما ينتظرهم لو رحل و قانعين بمبدأ "ما رماك على المرّ سوى ما هو أمرّ" ؟ أليس صوت رصاصةٍ واحدة في الأعراس يطغى على عشرات الزغاريد فكيف لهم أن يصدّقوا أن سيسمعهم أحد و قصف الحرب يملأ الآذان صمّاً و القلوب رعباً ؟ لكن ألم يكفي كلّ الدم و الدمار الذي حلّ بنا في أرضنا شبراً تلو الآخر كي يفهموا ألّا مناص من اقتحام اليمّ !؟

الصامتون ليسوا أمواتاً .. على الأقل ليس بعد، بل إنّ أغلبية من يبثّون الروح اليوم في الوطن المستباح ينبعون منهم، هؤلاء الذين في حضور إخوةٍ قد صاروا قتلة و تجّار عذابٍ يستغلون حاجات الناس، قاموا بتقديم ما يقدرون عليه من إغاثةٍ للمنكوبين بالمال و الجهد و الوقت و التنسيق بينهم أفضل من كل الهيئات الدولية المتفرّجة المعنيّة بإحصاءاتها و تعداد وفياتنا. هؤلاء العاملون في صمت لم يبثوا الروح و الأمل في نفوس من ساعدوهم فقط، بل أيضاً في نفسي و نفوس الكثيرين من اليائسين من إنقاذ الوطن من محنته، هؤلاء من نراهن عليهم أن يبنوا الغد عندما تغرب شمس اليوم.

إنّ أفظع جرائم النظام خلال الثورة ليست نحره لعشرات آلاف السوريين و لا تهجيره لملايين منهم خارج الحدود و داخلها و لا معاناة ربعهم من الجوع و البرد و شظف العيش بحيث تقتصر حياتهم على ملاحقة سبل البقاء، بل هي تعميق الشرخ النفسي بين أبناء الوطن الواحد، مناطقياً و طائفياً و عرقياً، هذا الشرخ الذي سيباعد بيننا لو لم نبدأ بعلاجه بسرعة، و قضيتنا اليوم كسوريين ليست أن نكون مع النظام أو مع الثورة، بل أن نكون مع الوطن مهما كان اعتقادنا السياسي و الوطني، فلو أيّدنا الثورة علينا أن نعمل على إزاحة النظام من المشهد دون هدم الدولة، و لو أيّدنا النظام فعلينا محاسبته على تقصيره في حماية الوطن و إتاحة المجال لكل أعداءنا نهشه كما يريدون و التفريط بسيادته، علينا أجمعين أن نتحرك لإنقاذ سوريا مما ينتظرها فيما لو بقينا على حالنا نرقبها كيف يتقاسمها اللئام.

 كثيرون لا يصدّقون أنّنا يمكن أن يكون لنا كلمتنا و إرادتنا و نفرضها لأجل مستقبل أولادنا، المالكون الحقيقيون لسوريا الغد، و هذا أمرٌ متوقّع في بلادٍ تعاني العبودية منذ سنين طويلة أن يفكّر أبناؤها كالعبيد المستسلمين لقضاء السيّد الظالم، وحده الفعل المخلص أصدق من آلاف الكلمات و تراشق الاتهامات، و الخوف من المستقبل المجهول مشروع و لكنه سيتقلص إلى حده الأدنى لو علمنا أنّ بإمكاننا رسمه بأيدينا، لو فهمنا ألّا مفرّ من الخطو تجاهه و لا مفرّ من إزالة جدار النظام الذي يسدّ الدرب إليه، فليعد المؤيدون ترتيب أولوياتهم بين البلد و مستقبلها و مستقبلهم و استمرار معبودهم، فليستعد المعارضون أولوية أهدافهم من حرية و كرامة و عدالة و مواطنة، و الصامتون الصامتون، لعلّهم يدركون، أن لا مفر من بذل ما يملكون، و التضحيات قادمة سواءً قاموا أم بقوا في حال السكون، فلنكن الآن أو أبداً لن نكون.

لقد أخرجت هذه الثورة أقذر ما في نفوس السوريين و أطهره، و يبقى علينا نحن الناس البسطاء أن نفرز الغثّ من السمين، أن نعمل على استعادة الشرعية من يد السلاح إلى يد العمل المدني، أن نضع على الطاولة مخاوفنا التي تقلقنا مما يحمله الغد، ليس استباقاً للحظة غياب النظام المحققّة و لكن تعجيلاً في قدومها عندما نتفق على ضرورتها، و لعلّ إحدى الطرق المجدية تكون حركةً مدنية واسعة النطاق لتعديلٍ عاجل في الدستور أساسه تغيير شكل الحكم في سوريا من النظام الرئاسي إلى النظام الدستوري و بحيث تصبح صلاحيات السلطة التنفيذية كاملةً في يد رئيس الوزراء. مجرد القدرة على تحقيق إنجاز شعبي خالص مهما كان صغيراً سيعطي القوى الدولية و الإقليمية إشارة النهاية للعبتهم و سيفهمون أنّ أوان ريحنا قد آن، و سيتم تطبيق الخطوات المتوقعة من وقف إطلاق النار و التوافق على عناصر حكومة الإنقاذ و إنشاء هيئة قضائية عليا بالتزامن مع لجنة إعمار سوريا و لجان رعاية المتضررين و ذوي الشهداء، و مع الجمعية التأسيسية المدوّنة للدستور النهائي و المستفتى عليه شعبياً، قبل أن تُجرى الانتخابات البرلمانية التي ستنبثق عنها الحكومة الوطنية  و التي ستصدّق على النتائج الموثّقة لتحريات مجموعات حقوق الإنسان و تعمل على إحلال العدالة. سيكون هناك الكثير من العمل المجهد و الصعب لبناء سوريا من جديد، و إسقاط النظام ليس سوى أسهل خطواته و إن كان لا يمكن الابتداء دونها.

هل سيوافق النظام على هكذا آمالٍ شعبية !؟ بالطبع لا، لكنه سيخضع مرغماً بعد أن فقد كل قدراته و بات يمتثل لولاة أمره و لو ببعض العناد. هل ستوافق جميع قوى المعارضة على هكذا نهاية قد تقصيها !؟ غالباً لا، لكن التعامل معها أسهل حيث لم تشكّل إلى اليوم أساساً في حياة السوريين و لا مستقبلهم، و ستزيحهم الدول المسؤولة عنهم بما في ذلك تلك التي تدعم العمل المسلّح عندما تنتفي الحاجة إليهم، و من تبقى من مغامري السلاح و هواته ستسهل محاصرتهم بالقوى الوطنية عندما يفقدون حاضنتهم الشعبية و فقط إن آمن الناس أنّ الوطن قد عاد.

إمّا أن نلتقي على قلبٍ واحد و على تراب الوطن، أو سنلتقي تحت ترابه الذي سيدفننا جميعاً في غياهب النسيان. أؤمن أنّ هذه لحظة السوري أن يصرخ بملء روحه "بكفّي ! و سيكون ذلك بكفّي !". فلنضع كل مخاوفنا فوق الطاولة و نواجهها و نفكّكها ثم نرميها خلفنا عندما نفهمها، و نمضي معاً لنبني لا لنهدم. لا أقول لكم سوى ما قاله جبران: "قدّسوا الحريّة حتى لا يحكمكم طغاة الأرض". طغاة اليوم و طغاة الغد.