بعيد ذلك، وقبله أيضاً، صدرت العديد من التصريحات المباشرة والتسريبات غير المباشرة الصادرة عن البنتاغون الأمريكي ومحللين عسكريين عاملين فيه تتحدث عن تطور الدفاعات الجوية السورية التي تشكّل عقبة يتوجب أخذها بعين الاعتبار في أي سيناريو للتدخل العسكري الغربي في المشهد السوري.

هذه التصريحات الأمريكية بالدرجة الأولى، لم تفسّر عجز الدفاعات الجوية السورية عن التقاط أية طائرة إسرائيلية من تلك التي اخترقت أجواء سوريا واستهدفت مواقع عسكرية في عمقها الجغرافي، ثلاث مرات خلال العقد المنصرم، قبل اندلاع الأحداث الراهنة في سوريا.

نسب البعض ذلك إلى أن سوريا حظيت في السنتين الأخيرتين بدعم روسي تقني غير مسبوق، وأن الدفاعات الجوية السورية حصلت على تعزيزات نوعية زادت من فعاليتها، وهي قراءة زادت قوةً بعيد حادث إسقاط الطائرة التركية المشار إليه.

***

تأتي الغارة الإسرائيلية الأخيرة اليوم، لتعيد فتح ملف هذه القضية، فمن بين الكثير من التساؤلات التي أثارتها هذه الغارة، من حيث التوقيت والدوافع والغايات، يندرج تساؤل مهم: كيف نفسر عجز الدفاعات الجوية السورية عن التقاط الطائرات الإسرائيلية التي تمكنت، على ما يبدو في يسرٍ، من تدمير ما تريد تدميره في العمق السوري؟

يصعب هنا إيجاد تفسير مقنع في حال أخذنا بمقولة وزارة الدفاع الأمريكية حول قوة وتطور الدفاعات الجوية السورية.

 في هذا السياق يطرح بعض أنصار النظام مقولة مفادها أن هذه الثغرة في قدرات النظام الدفاعية كانت حصيلة مساعي الثائرين عليه في ضرب مواقع دفاعاته العسكرية...وفي حال أخذنا بهذه المقولة، التي يستهدف أصحابها منها تعزيز معنويات أنصار النظام وتبرير عجزه عن التصدي للطائرات المعادية بصورة رئيسية، لو أخذنا بهذه المقولة فهي تعني إحدى نتيجتين:

الأولى: أن كل دفاعات النظام الجوية في دمشق ومحيطها قد انهارت أو تدمرت بفعل ضربات الثائرين المسلحين عليه، إذ لا يُتخيّل أن يحصر النظام دفاعاته الجوية في موقع أو قاعدة عسكرية واحدة، وعدم حصول أي رد على الطائرات الإسرائيلية الغازية يعني أن كل هذه المواقع باتت خارج الخدمة، وهو ما يعني أيضاً أن النظام في سوريا بات مكشوفاً جويّاً، وهي نتيجة لا تخدم غاية الرفع من معنويات أنصار النظام.

الثانية: أن الدفاعات الجوية للنظام الموزعة في أكثر من موقع في محيط العاصمة، لم تستهدف بأكملها من جانب الثائرين عليه، لكنها عجزت عن استهداف الطائرات الإسرائيلية، وذلك لتخلفها التقني عن سلاح الطيران الإسرائيلي، الذي هو أمريكي بالأساس، مما يعني أن الدفاعات الجوية السورية أضعف بكثير مما تم تقديمه أمريكياً للعالم، مما يفيد بأن واشنطن كانت تكذب كي تبرر عدم رغبتها في التدخل العسكري في سوريا.

أما لماذا لا ترغب واشنطن بالتدخل العسكري في سوريا؟

يمكن لنا أن نقدم إجابات عديدة أمريكية بالأساس، على هذا التساؤل، لكنها جميعها تفيد بأن بقاء النظام السوري لا يمثّل ذلك الخطر الكافي الذي يوجب تدخل واشنطن العسكري، وبالتالي فإن "صمود وممانعة" النظام لم يكن بالأمر المزعج لواشنطن إلى حدّ يوجب التدخل العسكري.

عند هذا المفرق قد يتحدث أحدهم عن العامل الروسي، الذي يدفع به البعض إلى حد احتمالية الانجرار إلى عمل عسكري لحماية النظام في دمشق، الأمر الذي يُوجب التساؤل: لماذا لم يزود الروس نظامهم الحليف بدمشق بدفاعات جوية متطورة كافية لردع أي عدوان غربي أو إسرائيلي عليه؟

هنا نجد أنفسنا أمام جوابين لا ثالث لهما: إما أن الروس لا يملكون الثقة الكافية بنظامهم الحليف كي يضعوا بين يديه معدات متقدمة من صناعتهم، وبالتالي يترتب على هذه النتيجة أن الروس لا ينظرون إلى تحالفهم مع النظام بدمشق تلك النظرة المصيرية، أو أن الروس يملكون تنسيقاً خاصاً مع إسرائيل، وبالتالي بطبيعة الحال، مع واشنطن، يضبط سقف التعاون العسكري الروسي مع دمشق بما لا يضرّ بأمن إسرائيل، وهذا يعني أن صداماً عسكرياً روسياً – أمريكياً بخصوص النظام في سوريا أمرٌ غير وارد.

الخلاصة التي يمكن لنا أن نخرج بها مما سبق، خاصةً في حال أهملنا بعض النظريات التي تتحدث عن اتفاقات "جنتلمان" بين النظام وإسرائيل، تضبط قواعد اللعبة بين الطرفين بما يضمن أمن الطرفين المتبادل، فإننا بأحسن الأحوال نستطيع أن نقول بأن النظام في سورية لم يكن مضراً للمصالح الأمريكية – الإسرائيلية إلى الحد الذي يوجب التدخل العسكري.

وأن هذا التدخل، متمثلاً اليوم بالغارة الإسرائيلية، حدث فقط حينما بدأ النظام يفقد قوته ويترنح، وتراجعت إمكانياته على إزعاج إسرائيل تحديداً، مما يعني أن الأخيرة تخشى إزعاج أحد آخر في سوريا، غير النظام الحاكم بدمشق.

 أو أن النظام تخطى إحدى قواعد اللعبة المتفق عليها بين الطرفين، فأرادت إسرائيل تذكيره بها.

وفي الختام لا يمكن لنا أن نقرأ الغارة الإسرائيلية إلا في سياق تهشيم جديد للوزن الإقليمي لسوريا في المنطقة والذي بقي لعقود مثار اعتزاز النظام الحاكم في دمشق، ومصدراً بارزاً من مصادر شرعيته في نظر السوريين.