المشروع
الذي قاوم الاستعمار الفرنسي يهدد دمشق بالعطش ....
من كان يعلم أن المشروع الذي دفع
لأجلهِ السوريون دمائهم وأرواحهم وتعرضوا للاعتقال لأجله، هو اليوم يستخدم كسلاح
جديد من الأسلحة التي تلوع بها السوريون طيلة الأربع سنوات الماضية، ألا وهو مشروع
مياه عين الفيجة.
هل كان وطنيوا الأمس ليتوقعوا
يوماً، أن اجترار مياه ينابيع عين الفيجة إلى دمشق يوماً سيكون ثمنه بحيرات وبحيرات
من الدماء التي لم ولن تتوقف، حتى بات من يشرب كأس ماء بدمشق لن يرى فيها إلا لوناً
أحمراً قاتماً هو لون دماء الأبرياء الذين وقعوا ضحية العجز من فقرهم وجوعهم وموتهم
بصمت فلم يجدوا أمامهم إلا المياه كسلاح فعال للتسوية، إلا أن هناك من ضاق بهم
ذرعاً وأعاد المياه المقطوعة إلى مجاريها لا بالتفاوض بل بسيل من الدماء لم يجف حتى
يومنا هذا.
مشروع مياه عين الفيجة ليس إنجازاً
يحسب لحزب أو سلطة، بل هو إنجاز يحسب لشعب ورجال وطنيون عملوا مايستطيعون في سبيل
إيصال مياه نهر بهر بردى إلى كل بيت من بيوت دمشق، وبدلاً من أن يطور هذا المشروع
كان العكس تماماً، فمنذ سنين عدة عانى أهالي دمشق من كثرة ساعات التقنين المائي في
بيوتهم، واليوم هم يعانون الأمرين مع انقطاع متواصل للمياه ترافق مع إعلان دخول
الماء كسلاح من الأسلحة المستخدمة في الحرب السورية – السورية التي نعيشها اليوم.
وهنا نجد أنه لابد لنا أن نعود
بالتاريخ قليلاً إلى الوراء، ونذاكر معاً كيف تم تحقيق هذا الإنجاز العظيم وكم دفع
السوريون في سبيله، علَ الذكرى تنفع المؤمنين.
نشرت مجلة الشرطة والأمن العام
بعددها الصادر في نيسان 1952 قصة دخول مياه الفيجة إلى دمشق جاء في المقال:
" كانت دمشق في أيام الرومان
وفي أيام العرب تروى من مياه الفيجة بواسطة قناة محفورة في الصخور، مارة على سفح
الجبل بوادي بردى وتمتد من نبع الفيجة إلى أعلى نقطة في حي الصالحية، ولا تزال آثار
هذه القناة موجودة وقد تخربت بعض أقسامها، بفعل الإهمال والأحداث الطبيعية.
وعندما حرمت دمشق من المياه
النقية بعد تخريب القناة وانتشرت الأمراض والأوبئة، فكر المرحوم ناظم باشا والي
دمشق في العهد العثماني، بجر مياه الفيجة إلى دمشق بواسطة قساطل حديدية، ووفق هذا
الوالي العمراني في مشروعه، فأسيلت المياه بواسطة القساطل ووزعت على مايقرب من 500
سبيل في جميع انحاء دمشق.
وبلغت كمية المياه النقية
المسحوبة في عهده 2000 متر مكعب اليوم، ولم يقتصر عمل هذا الوالي العمراني على هذا
المشروع، بل وضع حجر الأساس لعمران دمشق عندما بنى دار الحكومة ودار البلدية
ومديرية الشرطة والمستشفى الوطني على الطراز الحديث يومئذ.
على أن كمية المياه التي
استطاع الوالي ناظم باشا تأمينها لم تعد كافية، خصوصاً بعد ازدياد عدد السكان
بالعاصمة دمشق خلال فترة الاحتلال الفرنسي (من العام 1920 حتى العام 1946) ففكر بعض
أصحاب المروءة
من الدمشقيين
ومنهم لطفي الحفار وفارس الخوري على تشكيل لجنة لمياه الفيجة في العام 1922 لتأخذ
على عاتقها جلب مقادير أوفر من نبع الفيجة الذي يبعد حوالي 23 كيلوا متراً عن
العاصمة دمشق.
وفي العام 1924 أخذت اللجنة
الامتياز من الحكومة بالرغم إرادة الجهات الانتدابية وبجهود خالصة للسيد لطفي
الحفار الذي حيث استطاع الحصول على الامتياز من أفواه الشركات الأجنبية التي دفعت
الغالي والثمين في سبيل الحصول عليه، حتى وصلت الأمور بهذه الشركات بالضغط على
سلطات الانتداب لاعتقال أصحاب هذا المشروع، إلا أنه لم يكن هناك بديل أمام الرجالات
السوريون الوطنيون من تنفيذ هذا المشروع على عاتقهم وبجهد وطني خالص وبالتعاون مع
غرفة تجارة دمشق على الرغم من كل التهديدات.
وفي العام 1925 عرض هذا
المشروع للالتزام فتقدمت أربعة عشر شركة كبرى ونالتها بالمناقصة إحدى الشركات
السورية الكبرى وابتدأ العمل في أيلول 1925.
وانتهى المشروع في العام 1932
بعد ان بلغت الأعمال الانشائية 270 ألف ليرة عثمانية ذهبية، ويبلغ طول القناة 18
كيلو متر وهي مؤلفة من أربعين نفقاً وثلاثة قنوات مبنية بالإسمنت المسلح وأربعة
جسور يختلف طولها بين 15 و 50 متراً بنيت من الاسمنت المسلح وسيفون كبير بطول 400
متراً في قرية وادي دمر التي تبعد عن دمشق حوالي سبعة كيلو مترات.
وقد تم تدشين هذا المشروع
باحتفال كبير جرى بدمشق، وأضحى سكانها يحصلون على الماء النقي بدلاً من المياه
الملوثة، إذ لم يكن يوجد فيها سوى عدة سُبل من ماء نبع الفيجة، يعود الفضل بمدها
إلى الوالي ناظم باشا كما ذكرنا.
تولّى الحفار منصب المراقب
العام في مؤسسة الفيجة منذ العام 1932 وبقي فيه حتى تموز (يوليو) عام 1958.
عمل الحفار أيضًا على إنشاء
لجنة بناء مياه الفيجة والذي يعد من أجمل الأبنية الدمشقية، وكان الحفار من مؤسسي
شركتي الإسمنت والإنشاءات وبالرغم من رغبة الشركات الأجنبية بأخذ هذا الامتياز
والاستئثار بالمشروع.
أما
طريقة توزيع المياه فطريقة فريدة، فالمشتركون بالمياه يملكون أمتاراً من الماء
يدفعون قيمتها لأجل تأمين رأس مال المشروع، ويدفعون رسماً سنوياً لقاء نفقات
الترميم والإصلاح.
وأنشأت اللجنة دار لها تعتبر
آية من آيات الفن العربي تمتاز بنقوشها وزخرفتها وأثاثها.
مجلة الشرطة والأمن العام 1952
القارئ لهذه الأسطر ربما يشعر
بالخزي والعار لأنه يعيش في زمنٍ يدمر به السوريون ما بناه آبائهم وأجدادهم
السوريون، زمنٍ لم نقدم فيه شيء لسوريا وحضارة سورية إلا الخراب والدمار.
وسيبقى التاريخ يذكر دائماً أنه في
دمشق استخدم يوماً شعار " الدماء مقابل الماء " فياليت هذا التاريخ يتوقف هنا
ويكفينا إرهاباً وسفكاً للدماء نورثه لأجيالنا القادمة.