شكري القوتلي رئيساً للجمهورية السورية ... إما الموت وإما
الاستقلال التام
سوريا تعلن الحرب على اليابان وألمانيا ... وفارس الخوري رئيساً
لكبرى لجان الأمم المتحدة
لم تكن (سوريا) بالنسبة لقوى الصراع الكبرى في الحرب العالمية
الثانية، مجرد دولة تقع في الشرق الأوسط مطلة على البحر المتوسط بل كانت أكثر من
ذلك بكثير، بسبب موقعها وتمدن شعبها وحضارته، وأخيراً لأنها الدولة المشرفة على
حدود الكيان الذي كانت الدول الاستعمارية ترغب بزرعه في منطقة الشرق الأوسط ألا وهو
(إسرائيل).
لذلك كانت بريطانيا تطمع من خلال تواجد قواتها في سوريا أن تحل
محل القوات الفرنسية وأخذت تتقرب من القوى الوطنية السورية عارضة عليهم تأييدها
التام لسوريا في سبيل نيلها حريتها واستقلالها، تفطن الجنرال (كاترو) المندوب
السامي الفرنسي في سوريا لمخطط الدولة البريطانية العظمى، وما كان منه أمام النضال
الشعبي الكبير الساعي بكل جهد وقوة إلى نيل استقلال سوريا استقلالاً تاماً إلا أن
يرضخ للوطنيين السوريين ويلبي مطالبهم في سبيل استقلال بلادهم، وبعد عدة لقاءات مع
رجالات الكتلة الوطنية والاستماع إلى مطالبهم، قرر في 25 آذار 1943 إنهاء دور حكومة
جميل الألشي التي عينها الشيخ تاج الدين الحسني قبل وفاته، وتكليف عطا الأيوبي
الشخصية الوطنية السورية المعروفة باستقلاليتها وحياديتها من أجل تأليف حكومة
جديدة، تتم من خلالها انتخابات برلمانية حرة يشارك بها السوريون بكل أطيافهم
وفئاتهم وبكل حرية لانتخاب أعضاء مجلسهم النيابي ومن ثم انتخاب رئيس جمهوريتهم.
فازت الكتلة الوطنية بأغلبية ساحقة في هذه الانتخابات، وفي 7 آب
1943 تم إعلان أسماء الفائزين بالانتخابات وتم تسمية السيد فارس الخوري رئيساً
للمجلس النيابي، وبدأت عملية انتخاب رئيس الجمهورية، فانتخب الرئيس شكري بك القوتلي
ليبدأ العهد الذهبي في سوريا عهد الاستقلال.
العهد الذهبي السوري .... عهد الاستقلال ... عهد الرئيس شكري
القوتلي:
الرئيس
شكري بك القوتلي، ذلك الوطني الشرس المتمسك باستقلال بلاده استقلالاً تاماً كما
يصفه خصومه، ترشح عن الكتلة الوطنية في الانتخابات الرئاسية التي جرت في 7 آب 1943،
وكان ترشحه بعد أن أعلن الزعيم هاشم الأتاسي تأييده لهذا الشاب الوطني في دخول
الانتخابات الرئاسية، وهذا ماجرى إذ تم انتخاب القوتلي في السابع من آب 1943
وبالأغلبية المطلقة رئيساً للجمهورية السورية.
لم يكن الفرنسيون ليعلموا أن انتخاب القوتلي سيكون بداية نهاية
تواجدهم التام في سوريا، فقد اعتقدوا أنهم إذا ما تقربوا من رجالات الكتلة الوطنية
سيستطيعون ثنيهم عن المطالبة بالاستقلال التام والمنجز لبلادهم، إلا أن الرياح
لاتجري دائماً بما تشتهيه السفن.
فهاهو الرئيس القوتلي يبدأ عهده بإعلان دمشق في 23 كانون الأول
1943 حيث ضغط على الجنرال كاترو مندوب فرنسا الحرة في سوريا ولبنان بعقد اجتماع في
دمشق يحضره رئيس الوزراء السوري سعد الله الجابري ورئيس وزراء لبنان رياض الصلح
وعدد من الوزراء السوريين واللبنانيين وقضى هذا الاجتماع إلى نقل جميع المصالح التي
كان يديرها الفرنسيون في سوريا ولبنان إلى الحكومة الوطنية في هذه الدولتين وعلى
رأسها الأمن العام والجمارك والسكك الحديدية والعشائر ومراقبة الصحف والمطبوعات
والشركات ذات الامتياز والتشريع والإدارة وذلك اعتباراً من الأول من كانون الثاني
1944.
القوتلي يتحدى رئيس الوزراء البريطاني ويشارك بتأسيس جامعة
الدول العربية ويعلن الحرب على ألمانيا واليابان:
في هذا الجو المشحون بالبغض بين سلطات الانتداب الفرنسي وبين
الحكومة السورية، حاولت بريطانيا التدخل من أجل الإبقاء على مصالح حليفتها الفرنسية
في سوريا،
فأرسل رئيس الوزراء البريطاني عدد من الرسائل للرئيس السوري شكري القوتلي ينصحه بها
بالعمل على إيجاد صيغة للتفاهم بين فرنسا وسوريا، وأنهم يرغبون من القوتلي بتنفيذ
تلك الرغبة، فما كان من الرئيس القوتلي الذي رأى تلك الصيغة من الاستهتار بكيان
الدولة السورية، إلا أن رد على تلك الرسائل برسالة عن طريق الجنرال البريطاني سبيرس
جاء فيها:
" لقد غادر فيصل رحمه الله سوريا
وليس له فيها سوى كرسي بأربع أرجل أما أنا يا حضرة الجنرال فلي في هذه البلاد تراث
ستمائة سنة ولي فيها أهل وإخوان استشهدوا في سبيل الاستقلال الذي أحرص عليه أنا
وشعبي، فإذا كان المستر تشرشل يريد أن يفعل بي ما فعله المستر لويد جورج بالمرحوم
فيصل فليثق بأن هذه الفعلة لن تتم، وليطمئن إلى أنه لن يكون لفرنسا مقام في هذه
البلاد."
وفي 18 شباط التقى الرئيس القوتلي برئيس الوزراء البريطاني
تشرشل في خلال تواجدهما في القاهرة، فأخبر الرئيس القوتلي الرئيس تشرشل عند تطرقه
لمسألة تسوية الأمور مع الفرنسيين أن: " بلاده عازمة على الخلاص من فرنسا ونيل
استقلالها وحريتها ولايمكن أن تتحول عزيمتها بأي شكل من الأشكال، وأن السلم لن
يستتب في الشرق إلا بجلاء فرنسا عنه وأن سوريا مستعدة لبذل آخر قطرة دم من دماء
أبنائها في سبيل الحرية والاستقلال" .
فرد عليه الجنرال تشرشل بلهجته القوية :
"لا تهددني يافخامة الرئيس فإنني الآن قادم من يالطا حيث كنا
نقرر مصير العالم …"
فالتفت إليه الرئيس القوتلي وأجابه بكل ثقة :
"ونحنُ أبناء سوريا والعرب من هذا العالم أيضاً ونريد أن نعيش
في أمان وسلام وأن نساهم في سعادة البشرية وتأمين الاستقرار في هذه البقعة ،
ولايمكن أن يتحقق شيء من هذا مادامت فرنسا موجودة في الشرق …"
في نهاية هذا اللقاء اقتنع الرئيس تشرشل بكل ما كان يقال عن
تصلب الرئيس القوتلي بموقفه فيما يتعلق باستقلال بلاده التام وبدأ يبحث عن طرق
جديدة تسمح لقواته بالتواجد على الأراضي السورية.
وفي 26 شباط 1945 صدر مرسوم رئاسي بإعلان سوريا الحرب على
ألمانيا واليابان بهدف الموافقة على انضمامها للأمم المتحدة، وهذا ما كان حيث دعيت
سوريا إلى المشاركة بمؤتمر سان فرانسيسكو المنعقد في 31 آذار 1945 للتوقيع على
ميثاق تأسيس الأمم المتحدة وشارك بهذا المؤتمر رئيس الوزراء السوري الداهية السياسي
فارس بك الخوري.
كان
الرئيس القوتلي يسعى جاهداً لتأكيد استقلال بلاده، وكان يسعى إلى إيصال القضية
السورية عالمياً من خلال المشاركة بأي مؤتمر عربي أو دولي في سبيل إعلان رغبة بلاده
في الاستقلال التام من القوات الفرنسية على أراضيها، كما أنه شارك بتأسيس جامعة
الدول العربية وأرسل فارس بك الخوري ليكون ممثلاً للحكومة السورية في المؤتمر الذي
انعقد في الإسكندرية بتشرين الثاني 1945 لوضع ميثاق لجامعة الدول العربية.
الحرية والاستقلال تؤخذ ولا تعطى:
في 18 أيار 1945 أصر مندوب فرنسا الحرة على توقيع اتفاقية مع كل
من الحكومة السورية والحكومة اللبنانية تقضي على استقلال مؤسسات فرنسا الثقافية في
سوريا ولبنان وصيانة مصالحها الاقتصادية وأخيراً تأسيس قواعد جوية وبحرية لفرنسا في
سوريا تكون قيادتها للضباط الفرنسيين.
ولدى اجتماعه مع الرئيس القوتلي أخبره بضرورة توقيع هذه
الاتفاقية لما لها من مصالح لسوريا وله شخصياً تتمثل بإبقائه وأعضاء الكتلة الوطنية
على رأس السلطة في سوريا دون السماح لأحد بمنازعتهم على تلك السلطة، فما كان من
الرئيس القوتلي الذي كان مصاباً بمرض القرحة آنذاك إلا أن خرج عن هدوئه المعهود
وقال للمندوب الفرنسي:" إذا أردت أن تجمعني أنا وأفراد عائلتي وتهددني بقتلنا
جميعاً مقابل التوقيع على مثل هذه الاتفاقية لما وقعتها ولو سالت دماء أفراد عائلتي
أمامي، لن أقبل أن يكون وجودكم في سوريا بتوقيع مني، ولن أقبل أن يكون وجودي عطاءاً
من القوات الفرنسية، فالاستقلال والحرية تؤخذ ولا تعطى"
صاحب هذا الرفض الذي أبداه الرئيس القوتلي، رفضاً آخراً لتوقيع
هذه الاتفاقية من قبل أعضاء البرلمان في جلسته المنعقدة في 26 أيار 1945 ، حيث ألقى
الأعضاء خطابات رنانة نددوا فيها بأية اتفاقية تعطي امتيازات لفرنسا داخل سوريا
ودعوا السوريين إلى التظاهر حتى نيل استقلالهم التام والمنجز.
وفي هذا اليوم خرجت المظاهرات المنددة بالوجود الفرنسي
وللمطالبة بالاستقلال التام، اصطدمت هذه المظاهرات بالقوات الفرنسية في الشوارع وفي
يوم الثلاثاء 29 أيار 1945 وبعد أربعة أيام على خروج المظاهرات قامت القوات
الفرنسية بضرب دمشق والمتظاهرين بوحشية بالغة وازداد وحشية الفرنسيين أنهم اعترضوا
انعقاد اجتماع للمجلس النيابي السوري، وخصوصاً عندما رفض أفراد الحامية السورية
للبرلمان بأداء التحية للعلم الفرنسي فتقدم جندي سنغالي وأفرغ رصاصات بندقيته
الآثمة على عناصر الحامية السورية ما أسفر عن اشتباكات كبيرة بين أفراد الحامية
السورية والقوات الفرنسية أدت إلى استشهاد عدد كبير من أفراد الحامية قدر بثلاثين
شهيداً منها وبأكثر من مئة شهيد من باقي المدنيين.
كانت هذه الحادثة بمثابة إعلان لإنهاء التواجد الفرنسي في
سوريا، التي بقيت قيادتها وشعبها على موقفهم إلى أن تم الاستقلال التام لسوريا
وجلاء القوات الفرنسية عنها في 17 نيسان 1946.
الجمهورية السورية المستقلة والعالم: