news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
قرار ... بقلم : ريم الأتاسي

أعلم بأنني أحتاج إلى الكثير من الوقت لأنسى ما حصل، رغم أنني متأكد بأن هذا الوقت سيطول كلما رددت هذه العبارات. قالوا بأن الحرب هي أيام وتنتهي وها قد مرت ثلاث سنوات تلاشت فيها أحلامنا ونيران الحرب ما تزال تحرق كل ما يمر بطريقها..

 

قبل أن أخطو بأي خطوة، أو أخطو أي كلمة، جلست وحيداً على الصخور أمام البحر، أتأمل موجاته المتاصدمة، وصخوره التي كانت برغم المياه التي تصطدم فيها كل يوم ما تزال صامدة. قررت هذه المرة ألا أكتب عن ألم الفراق الذي لازمني لوقت طويل، ولا عن مأساة رحيل كل الأناس الذين أحببتهم..


لم تترك الحرب أمامنا خياراً سوى خيار الرحيل، امتطيناه بقناعة موجوعة مضطربة، متحملين مسؤولية قرارنا في لحظة الضعف التي اتخذناه فيها، لقد كنا نعلم بأننا نحطم أحلامنا، ونطير بآمالنا إلى سماء لا توجد سوى في الخيال، لكنه القدر ..

 

كنت في الطائرة عندما فتحت الصحيفة المحلية أودع أخبار البلاد المشتعلة، صدفة حملتني الأوراق لأفتح على صفحة المنوعات، كانت صورتها تحمل العنوان الرئيسي:" حادث أم انتحار.. حقيقة مقتل ..".. سقطت الصحيفة من يدي، ارتعشت يداي، أخذ قلبي يخفق بشدة، تناولت إحدى النسوة المسنات الصحيفة من الأرض وأعادتها إلي، نظرت إليها أومأت لها بالشكر. أعدت التقليب بسرعة، رحت أتأمل صورتها بالأبيض والأسود، بالرمادي إن صح التعبير، أتأمل ابتسامتها المشوبة بالأحزان، رحت أقرأ الخبر:" هل كانت سوسن الفتاة في العقد الثاني ضحية حرب نفسية أم باردة، تلك الفتاة التي خرج في تشيع جثمانها الطاهر مئات الشبان والشابات..

 

وجدت الفتاة في منزلها مفارقة الحياة في تمام الساعة الحادية عشر ليلاً، وأوضحت أسرة الضحية أن الفتاة كانت قد تعرضت لعدة رضوض في جسدها إثر سقوط قذيفة ..

رغم تحذير العديد من أهالي الحي لها، أصرت الفتاة على البقاء في منزلها.."..

 

وضعت العجوز يدها على قدمي التي كانت تهتز بسرعة وبشكل لا إرادي، أخذت الصحيفة من يدي، أغلقتها ووضعتها بجانبها، شعرت بأنها تريد أن تحدثني، رغم أن حالتي كانت توحي بأن آخر ما أوده في تلك اللحظة هو المحادثة..

-         لقد دمرت الحرب كل شيء، الأرواح قبل الأجساد..

-         هل تعتقدين بأنها أقدمت على الانتحار؟

-         هل تعرفها؟

-         لا .. إنها تشبه شقيقتي لهذا كنت أتابع الموضوع باهتمام..

-         لقد رأيت صورتها على خلفية هاتفك المحمول..

 

شعرت بكلماتها خناجر مسمومة طعنت في قلبي، شعرت بالخدر يصعد في جسدي، وبحرارة كنت أضعف من تقبلها، خلعت ربطة العنق، غصت الدمعة في حلقي. اعتقدت أن الصمت سينفع، فرحت أحدق إلى النافذة بجانبي إلى النجوم التي كانت تلمع حولي، نظرت إلى العجوز عبر زجاج النافذة، كانت غارقة في التفكير، شاردة في عالم كان وجودي فيه لم يقدر بعد..

 

-         في النهاية يا عزيزي الأعمار بيد الله..

-         لقد وعدتها أن أتزوجها، كان ذلك قبل بدء الحرب بثلاثة أشهر، لم أكن مستعداً لتقبل تلك الفكرة بعد، رحت أماطل .. ورحت أتجنبها في كل فرصة تسنح لنا باللقاء، شعرت بأن الزواج سجن سيقيدني .. لكن حريتي هي من فعل ذلك نهاية الأمر..

-         هل تعتقد بأنها أقدمت على الانتحار لأنك رحلت؟

-         أجل..

-         لا أحد يقرر التخلي عن روحه مقابل رحيل أحد، لكن عندما يشعر الإنسان بأنه لا يملك شيئاً ليخسره تصبح روحه أرخص شيء يمتلكه .. لأنه مع الأسف الشيء الوحيد الذي نعتقد بلحظة ضعف أننا نستطيع التحكم ببقائه أو رحيله..

-         لماذا لم تغادر؟

-         لا أعلم ..

 

-         لقد افترقنا بطريقة شنيعة، كنا ضحية حرب لم نختر فيها طرفاً، ضحية رصاصات زائفة كانت تحلق بين أحلامنا، لقد قتلت حبنا وآمالنا، حتى ألمنا قتلته بحقنة مخدرة، حتى بات البقاء الحق الوطني الوحيد الذي نمتلكه..

-         هل تعقتد ذلك؟

-         لا أعلم إن كنت حقاً أعتقد ذلك، لقد خرج الكلام مني بعفوية مطلقة..

-         الجميع يتبجحون بوطنيتهم، يتحججون بالوطن، كل منهم يقول بأنه يدافع عن وطنه، لكن الحقيقة هي أن كل واحد منهم يدافع عن أيديولوجية عقائدية تربى عليها..

-         لكن..

-         تخيل بأن الوطن هو أب، هل كان سيقبل أن يقتتل أبناءه من أجله، أو من أجل إرضائه، أو المفاخرة به .. بالطبع لا .. أنا أم .. أنا وطن، وجميع أولادي رحلوا ضحية رصاصات خرجت من أفواه أناس كلامهم أقوى من البارود، رحلوا لأجل لا شيء، لهذا قررت أنا أن أرحل..

-         هل أنت هاربة من الموت؟

 

ضحكت العجوز بصوت مرتفع، رأيت في عينيها دموع متجمدة، أعادت مقعدها إلى الخلف، ارتشفت القليل من المياه، عادت لصمتها وشرودها، عادت إلى حياتها السابقة، لتجتمع مع أبنائها، لماذا اختارت هذه المرأة الرحيل، لماذا قالت كل تلك الكلمات..

 

-         هل تعتقدين بأن أوضاع البلاد ستعود يوماً كما كانت؟

-         لو كنت حقاً هاربة من الموت لما اخترت السفر عبر الطائرة، في المستودع الذي يقبع في الأسفل توجد الكثير من الجثث، من الأجساد المجردة من الأرواح.. ليس عليك أن تصغي لكل ما أقوله، فأنا عجوز وأحياناً يبالغ المسنون في وصف الموت..

-         لقد أحببتها، لكنني كنت مجبراً على اتخاذ هذا القرار، أنا أيضاً لست هارباً من الموت، أنا هربت من أبواب خلفها سواد..

-         الحياة لا ترحب أبداً في لعبتها بالهاربون، فإن كنت حقاً تعتقد أنك اتخذت هذا القرار بناءً على الخوف فعد من حيث أتيت..

-         لماذا أنت على متن هذه الرحلة؟

-         لأودع آخر أبنائي..

-         استميحك عذراً..

-         لا تتهرب من نفسك، واجه حقيقة أنك كنت أضعف من شعور الحب، كنت أضعف من تقبل موت صديق لك، ومن رحيل شخص تعلقت به. الحياة قاسية لمن لا يعرف كيف يواجه ضعفه، إنها رحلة ببراعتك قد تجعلها ممتعة، وبجهلك قد تجعلها مقيتة وبائسة..

 

أعادت مقعدها إلى الخلف، أغمضت عينيها معلنة انتهاء المحادثة، سحبت الصحيفة من جانبها، عدت أتأمل المقال من جديد. أغلقت الصحيفة وضعتها في حقيبتي، فتحت هاتفي المحمول ورحت أتأمل الصورة، الفرق بينهما الألوان، هنا كانت تبدو حية، وهناك كان يبدو الموت ممثلاً بارعاً في التمثيل. كانت آخر رسالة منها:" أتمنى لك السعادة، من كل قلبي .. ذلك القلب الذي علمته كيف يحب لكنك نسيت كيف تعلمه أن ينسى، وقتلت به حب الحياة بعد أن علمته كيف يحيا، علمته الكثير الكثير، لكنك لم تعلمه شيئاً.."..

 

ربما علمتها الكثير، لكنها علمتني بموتها أكثر مما علمتها بكثير، وددت لو ألتقيها لثانية وأردد لها قولها أنتِ والحرب قتلتما بي حب الحياة بعد أن علمتماني كيف أحيا..

 

بعد ساعات، كنت على متن رحلة لا أحد فيها غريب، مغتربون في طريقهم إلى البلاد، كل منهم يحمل في سريرته سراً. منهم من كانت الدموع عنوان ملامحه، ومنهم من تعلم من الحياة اللامبالاة وأخذ يرحب بالعودة مبتسماً.

 

 

https://www.facebook.com/you.write.syrianews

 

 

2014-01-21
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
المزيد