دائمًا هنالك سؤال لماذا تقدم الآخرون وتخلف العالم العربي في الثلاثمائة سنة الأخيرة؟ هل بسبب غياب القيادة والزعيم الملهم؟
بالطبع لا، فهناك العديد من مشاريع النهضة ومحاولات اللحاق بالعالم المتقدم، ولكنها فشلت. ومثال هذا؛ مشروع “محمد علي” في مصر، والذي فشل بمجرد هزيمته العسكرية أمام تحالف الغرب والدولة العثمانية. بالرغم من أن اليابان -كمشروع للنهضة- قام في نفس الفترة الزمنية مع مصر (القرن الثامن عشر)، وتعرضت إلى هزيمة عسكرية أشد مرارة وكارثية في الحرب العالمية الثانية، ولكن الفارق اليوم كبير بين مشروع مصر واليابان.
من الممكن أن نسأل السؤال بصورة مختلفة كيف نجحت الحضارة العربية؟ وتحوّلت شعوب الشرق من التفكك والقبلية والاستعباد والاحتلال إلى العالم الأول، ومنارة للعلم على مدى أكثر من ثمانية قرون؟ بل وربما نجد في هذه الفترات بعض صور الفساد السياسي أو الحروب أو التحديات والكوارث، ولكن المجتمع كان يجمعه وعي ما، وصورة ذهنية تجعله يمضي في طريقه إلى الاتجاه الصحيح برغم المعوقات والمشاكل.
إذًا يمكننا القول بأن السر في نهضة الأمم وتقدمها، هو الوعي الجمعي الذي يجمعها على هدف واحد وينبع من هوية مشتركة. هذا الوعي الذي يجمع الأمم، قد يكون سببًا في تقدمها أو تفتتها، قد يكون سببًا للنهوض أو الاستسلام، قد يكون حافزًا على التحدي ومواجهة الصعاب، وقد يكون السبب في الاستسلام أمام محنة أو هزيمة. ولصناعة الوعي الجمعي للأمم، نحتاج إلى الاتفاق على هوية ومبادئ تجمع البشر، ونحتاج إلى هدف يوحّد مسارهم. فالجغرافيا وتقارب السكن والمكان وحده، لا يكفي لعمل وعي جماعي، فمن الممكن أن تسكن قبائل متناحرة نفس المنطقة، وكل منها له هوية مختلفة وهدف مختلف.
إذا أخذنا هذا الافتراض وطبقناه على نهضة العالم العربي، قد وضع بدين العرب مجموعة من المبادئ والأخلاق التي جمعت الشرق حولها. ومع انتشار اللغة العربية، كانت الهوية العربية جامعة لشعوب شتى، حتى لمن لا يتحدث العربية، أصبحت بوتقة تجمع شعوب الشرق على مبادئ مشتركة وفكر متقارب، ويدخل في صناعتها أعراق ولغات شتى من فارسي وتركي ومالايو وأردو… إلخ. وأصبح توجه الشعوب في الشرق يعضده الثقة في القدرة على صنع غد أفضل ماديًّا وروحيًّا وعقليًّا، فانتشر العلم وازدهرت الصناعة والفنون.
وإذا حاولنا تطبيق نفس الافتراض على شعوب الغرب في أوروبا وأمريكا، نجد أن حالة النهضة صاحبها الشعور بهوية مشتركة (يونانية رومانية مسيحية) تجمع الإنسان الأوروبي أمام العالم، وشعور بالقدرة والقوة، استمده في البداية من الانتصارات المتسارعة على الشعوب الأصلية لقارة أمريكا وأستراليا، وتطورت هذه الثقة مع القدرة المادية إلى عصر الاستعمار، وتطورت الثقة الشديدة والشعور بهوية متفردة إلى حالة مرضية، ظهرت في أوج حالاتها في النازية والفاشية من عنصرية واضطهاد للأجناس الأخرى.
إذًا لِكي ننهض؛ لا يكفي فقط أن يكون هناك دستور أو قانون أو ديمقراطية شكلية، بل يجب أن يصاحبها وعي جمعي يتجمع الناس حوله، ويتقدمها، ويحرص على تفعيل القانون وتطبيق المبادئ للوصول إلى النهضة المادية والعقلية والروحيه.
هذا الوعي الجمعي في الشرق، يجب أن يتضمن هوية عربية، ولكن هذا وحده لا يكفي، فلابد معه من أخلاقيات تحافظ على تجانس هذه الهوية، بل إن الأخلاق يجب أن تكون هي المحور الأصيل لهذا الوعي الجمعي. فالمبادئ التي تشمل، لا تقتل ولا تكذب ولا تغش ولا تسرق مبادئ تحافظ على أي كيان إنساني وتحميه من الضياع. ولكن إذا تحولت هذه المبادئ إلى إيجابية، يصبح الحرص على الصدق والأمانة والإتقان جزء من الهوية والثقافة. فهنا يكون صناعة الهوية وليس فقط حمايتها، وهنا تتحول الهوية المجمعة والوعي الجمعي إلى شرف، وتتحول المجموعة البشرية المؤمنة بوحدة الوعي الجمعي إلى جسد واحد.
وعند هذه المرحلة يصبح كل عضو في هذه الجماعة، لديه من الكرامة والترفع ما يمنعه من أن يأتي الدنية أو أن يفعل ما يعيب هويته من مفاسد الأخلاق. فيصبح الكذب عيبًا والغش إهانة، لا يرضاها على نفسه أيّ عضو في هذه الجماعة. في حين إن الجماعة المتفككة يتحول كل فرد فيها إلى الانتهازية التي تسمح له بأن يفعل أي شيء وكل شيء في سبيل مصلحة عابرة أو مكسب ضئيل. فيمكنه أن يكذب أو يسرق أو يغش أو يخون مقابل أشياء تافهة أو حتى بدون مقابل، فيتحول الكذب والغش إلى عادة ومرض لا يستطيع الشفاء منه، ويصبح خيانة الوطن ضرورة للبقاء والحصول على الرزق.
وإذا أردنا النهضة الأخلاقية للشرق، فعلينا العمل على إعادة بناء المؤسسات الأربع: التعليم والإعلام والمؤسسات الأهلية والحكومة الرشيدة، ويكون المنبع هوية الحضارة وروحها، ويكون الاتجاه نحو نهضة الشرق، وتكون الأخلاق هي التطبيق العملي والواقعي في الحياة اليومية لكل من يعيش هذا المشروع.
https://www.facebook.com/you.write.syrianews