لقد تحدّثت في مقالات سابقة عن داعش وغيرها من التنظيمات المتطرفة التي تصادر الإسلام لصالح تفكيرها ورؤيتها وتحليل دم كل من يخالفها !! ورفضتُ الربط بين هذه التنظيمات وبين الإسلام كدين وسطي كما ورد في آيات متعددة بالقرآن الكريم وليس دين عنف وقتل وسفك دماء ، فليس هناك من دين بالكون يُقرُّ القتل والذبح وتحليل دماء البشر وعرضها ومالها يمكن وصفه بدين سماوي ، بل هذا دين شياطين .. ومن يؤمن بذلك فهو ينتمي لفصيلة الشياطين وليس المسلمين أو البشر !!..
وعلى الصعيد الشخصي فإنني أؤمن بالرابط الإنساني المشترك بين كل البشر والذي يأتي رديفا لأي رابط آخر بين الشعوب والأمم والمجتمعات ، ومهما تعددت العقائد وتنوعت الإنتماءات الدينية والمذهبية والعُرقية فيجب أن يبقى الرابط الإنساني بين البشر رديفا قويا لكل هذه الروابط ، وحينها لا نرى أي شكل من أشكال التعصب لدى أي فصيل من البشر !!
ومن هنا أنظر بتقدير وإعجاب كبيرين إلى رسالة الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) لعامله على مصر مالك الأشتر: ) إعلم بأن الناس صنوان ، إما أخ لك بالدين أو نظير لك في الخلق ...) .. هذا القول للإمام علي(ر) اعتمدته اللجنة القانونية في الأمم المتحدة كأحد مصادر التشريع الدولي ...أي أن هناك رابط إنساني عام بين البشر ويجب أن نتعامل معهم على أساسه مهما اختلفنا معهم ، ونحترمهم كبشر ونحفظ كرامتهم وحقوقهم وأعراضهم وأموالهم كبشر قبل أي شيء ..!!!.
هكذا هو اعتقاد الإسلام الذي جاء رسولُه رحمة للعالمين وليس فقط للمسلمين ، وهذا هو أساسا جوهر كل الأديان بما فيها الأديان الوضعية التي تطورت من حالات فلسفية إلى عقائد دينية !! فالإنسان بالنتيجة هو الهدف الأسمى في الحياة وكل شيء يجب أن يُسخَّر لخدمته وليس لذبحه وقتله وإهانته !!.
ومن هنا أؤكد أن الأديان يجب أن تبتعد عن السياسات حتى تبقى تحافظ على رسالتها الإنسانية السامية وحتى لو اختلف السياسيون وتسببوا بالحروب وقتل البشر فيجب أن يكون دور رجال الدين دوما هو الوعظ والإرشاد والدعوة للسلم والسلام ووقف الحروب والعنف ومنعها، والحَثْ على تعامل البشرية مع بعضها بمحبة وتسامح !!
هذا هو دور رجال الدين ، ولكن لا يمكنهم لعب هذا الدور حينما يكونون هم الحكّام والساسة, فحينما يكونون هم الساسة فسيغرقون بمستنقعات السياسة التي لا تعرف المبادئ وإنما المصالح وسيبتعدون عن معاني الرسالة السماوية التي لا تعرف إلا القيم السامية ، بعكس السياسة !!. ومن هنا أنتقل للقول أن الأديان لا تصلح دولا ، والمشكلة لدى المسلمين كانت عبر التاريخ بإصرار البعض أن الإسلام دين ودولة ، وهذا غير صحيح ، فالإسلام لم يأت دين ودولة وإنما كان عقيدة وعبادة يدعو المجتمعات لعبادة الله الواحد الأحد ونشر قيم المحبة والسلام والتسامح والبعد عن العصبيات والتعصب الذي ساد زمن الجاهلية ، وكانت له فروضُهُ الخاصة كما بقية الأديان !! وهذه هي رسالته !!..
وأما مفهوم الدولة فمسألة أخرى ومختلفة ، وما جاء به الإسلام هو بعض الحدود أو الإجراءات لتنظيم المعاملات والعلاقات ضمن مجتمعات ضيقة متخلفة كانت في غالبيتها رعوية وقليل منها زراعية ، ولم تكن هناك مدارس وجامعات ومصارف ومصانع ، وكانت غالبية معاملات الناس تنحصر في عمليات البيع والشراء البسيطة، والسرقات والمشاجرات القبلية التي كانت تؤدي للقتل والثأر والحروب !!
ومجتمع كما هذا يمكن تنظيمه ببعض الإجراءات والحدود الارتجالية المناسبة لوقتها ولكن لا يمكن أن تصلح لزمنٍ بات العالم به شبه قرية متداخلة متواصلة معتمدة على بعضها بعضا ، وفي زمن الثورة التكنولوجية التي تفرض كل يوم شيئا جديدا وتشريعا قانونيا جديدا لا يمكن أن نبحث عنه في ثنايا الأديان ولا نجد جوابا مقنعا!!.
إن إلباس المجتمعات الدين كنظام دولة في كل الأوقات والأزمان هو كما إلباس طفل صغير ذات القميص والبنطال في كل مراحل العمر، وكلما كبُرَ قليلا يتم ترقيع ذات الثياب وإضافة بعض القماش الجديد لتطويلها وتوسيعها !!.
فلنتصور لو أننا سنقطع في هذا الزمن يد كل سارق في المجتمعات العربية والإسلامية في ظل انتشار الفقر والفاقة والبطالة ، فسوف نرى المجتمعات تمتلئ بمبتوري الأيدي الذين لن يتمكن واحدهم من العمل مستقبلا حتى لو توفّرت له الفرصة لذلك !!.
فتلك الحدود التي جاء بها الإسلام لا يمكن وصفها بقوانين دولة أو دستور وأنها تصلح لكل زمان ومكان ، إنها مجرّد إجراءات آنية رهينة بوقتها وظرفها ومكانها ليس إلا !! وحينما سعى الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وضع أساس لبناء دولة فقد استعان بالفرس وقوانين الفرس، لأنهم كانوا متقدمين نسبيا في هذا المجال وقياسا بذاك الزمن !!.
ولذلك من المبالغة الكبيرة ، بل من الجهل القول أن الإسلام (دين ودولة) ..!!.. هذا مع أننا نعرف جميعا أننا جرّبنا عبر التاريخ الخلافات الإسلامية ( أي الدول الإسلامية) لأكثر من ألفٍ ومائتي عام ، منذ الأمويين وحتى العباسيين والسلاجقة والفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين ،، فماذا حصدنا سوى التناحر والتقاتل والصراعات والاستبداد باسم الدين ونهب الشعوب باسم الدين ،كما كان يفعل العثمانيون الذين لا همَّ كان لهم سوى جمع الخِراج وخوزقة كل من يتأخر عن ذلك ، بينما سلاطينهم يعيشون حياة الترف والبذخ والجواري ولا علاقة لهم بالإسلام إلا بالاسم، وبهدف استغلال المسلمين وتجنيد شبابهم في الحروب التوسعية للسلطنة العثمانية ، وجعلهم وقودا لمصالح السلطنة وبقائها واستمرارها !!
فلنقرأ كم من الشباب العربي قضوا خلال ما يُعرف بـ (حرب الترعة الأولى والثانية) بداية الحرب العالمية الأولى حينما زجَّهم (العصمَلّي) في مواجهة البريطانيين الذين اجتاحوا (ممتلكات) السلطنة العثمانية !!.وكم قتلوا وهجّروا من نساء وأطفال ورجال من بلاد الحجاز خوفا من الثورة عليهم فيما عُرِف بـ( سفر برلك) أي الترحيل الجماعي باللغة التركية!! وكم من الشباب المصري قضوا في حرب القرم بين تركيا وروسيا بين عامي 1953-1956 !!. فهذا كان حال هذه الخلافات (الإسلامية) التي لم تكن إلا مملكات سياسية للسلاطين والخلفاء وأتباعهم من المقربّين ينعمون بها برغد العيش والحياة والبذخ والجواري على حساب عامة البشر ويمارسون السلطة بصلاحيات مطلقة وتعسَّف مطلق!!.. فحينما وصل السفّاح جمال باشا إلى دمشق عام 1914 ، وكان معروف ببغضه للعرب وكراهيته لهم ، ألقى خطبة في النادي الشرقي بهدف حشدهم في معاركه وحروبه ،وعدم الثورة على سلطنته الظالمة ، قال فيها :
"يجب عليكم يا أبناء العرب أن تحيوا مكارم أخلاق العرب ومجدهم، منذ شروق أنوار الديانة الأحمدية، أحيوا شهامة العرب وآدابهم حتى التي وجدت قبل الإسلام، ودافعوا عنها بكل قواكم. واعملوا على ترقية العرب والعربية، جددوا مدنيتكم، قوموا قناتكم، كونوا رجالا كاملين" .. وبعد هذا الكلام بعامين علَّق على أعواد المشانق في 6 أيار 1916 خيرة الوطنيين السوريين !! فهل من حكم(خلافة) أحلى من ذلك ؟!.
وأليس من العجَب أن نسمع أصواتا بهذا الزمن تدعو لإحياء دولة (الخلافة)، وكأننا لم نجربها أكثر من ألف ومائتي عام ونعرف إلى أين آلت بها الأمور !!..
لقد جرَّبت أوروبا حكم الدين (الكنيسة) على طريقتها ألف وخمسمائة سنة ، ونعرف إلى أين آلت بها الأمور أيضا من تخلف وجهل وتغييب للعقل على حساب المُسلّمات غير القابلة للنقاش والحوار .. فالعقل ممنوع أن يعمل وعليه أن يكون مُتلقِّي فقط دون أي نقاش أو جدل ، وحينما يغيب العقل فماذا يحضر بدلا عنه ؟؟ طبعا ستحضر القاعدة وداعش وبوكو حرام وأمثالها !!. لو بقيت أوروبا تحت حكم الدين لكانت خلف العرب بألف عام ، أما اليوم فالعرب خلفها بألف عام ، والهوَّة تتسع (ما شاء الله) بفضل ما يُطلِق عليه بعض المنغلقين والمُغفّلين (الصحوة الدينية) بدل (الردّة الدينية) التي رأينا ونرى آثارها اليوم من قتل وذبح واغتصاب وقطع رؤوس وهتك أعراض !!..
الإسلام كما كل الأديان هو عقائد وعبادات ، وهذه مسائل خاصة تخص كل فرد بمفرده وعلاقة روحية متبادلة بين الخالق والمخلوق ، ويوم الحساب لا يُحاسبُ البشر جماعيا وإنما كلٍّ يُحَاسب بمفرده ، أي لا علاقة لأحد بما فعلَ الآخر من أخطاء أو من حسنات ، ولا مجال هناك للإقتراض والاستعارة إن كان لدى أحدهم حسنات تفيض عن حاجته ، فلا يمكنه تجيير شيء منها حتى لأخيه أو ابنه !!. ومن هنا لا يحق لإنسان في الكون أن يفرض معتقده ومذهبه على الآخرين (فكلِّ عليه من نفسه فقط) ، وكل يتحمَل مسئولية نفسه بالآخرة!!.
لقد عشتُ في أمريكا وفي أوروبا (شرقا وغربا) وفي بلدان عربية في أفريقيا والخليج ، ومُقتنع أنه لا حل لمشاكل شعوبنا وبلداننا إلا الديمقراطية العَلمانية الإيمانية أو (المدنية) كما يحلو للبعض ، ولا أخفي إعجابي بالنظام السياسي الديمقراطي العَلماني الغربي وأتمنى لو أن كافة شعوبنا وبلداننا العربية تنعم بأشكال تلك الأنظمة السياسية فما كان لدينا صراعات دموية ، وما كانت قيمة الإنسان في بلداننا أقل من قيمة حشرة !! وإن اختزال البعض للحياة في الغرب والمجتمعات الغربية ببعض المظاهر التي يختلف عليها الغربيون أنفسهم (من شذوذ ) وسواها فهذه ليست سوى تقرُّحات على قشرة البرتقالة ، ولكنها لا تُفسِد جوهرها وطعمها اللذيذ!! وكأن مجتمعاتنا لا يوجد بها أي نوع من أنواع الشذوذ !!.
لن تعرف هذه الأمة وشعوبها طريقها الصحيح والسليم إلا بعد فصل الدين عن السياسة ، أو الدولة ، فالدين خصوصية ضمن المجتمعات وتخصُّ الفرد لوحده ، بينما الدولة هي الدستور والأنظمة والقوانين التي يجب أن تكون للجميع وأن يتساوى أمامها كل أبناء المجتمع بلا تمييز ، وهذه يجب أن تتطور مع تطور الحياة ولا يمكنها أن تبقى قوالب جامدة وكأن الحياة جامدة في مكانها ولا تتحرك للأمام !!..
https://www.facebook.com/you.write.syrianews