في بلدتنا تحولت الأفراح إلى أتراح ،
و السعادة إلى أحزان ، وانهارت الروابط الإنسانية ، وأصبح النهار أسوداً كالليل ، و
الماء بطعم الدم ، فتجرع الجميع الويلات نتيجة حرب طاحنة لم تبقِ و لم تذر.
فقبل أشهر أعادوا لأم خالد ولدها الشاب بصندوق خشبي شهيداً ، وحتى الآن لا تصدق بأن
وحيدها قد غادرها إلى السماء دون رجعة . منذ يوم دفنه وهي تذهب يومياً إلى قبره ،
تجلس إلى جانبه وتحدثه من الصباح حتى غياب الشمس .
وجارتها أم سمير التي استشهد ولدها أيضاً ، في كل
ليلة تطوف على بيوت أصدقائه و تسألهم عنه و تستغرب عن سبب تأخيره في العودة إلى
البيت ، و كل مساء تجهز له طعام العشاء وتعيد تسخينه عدة مرات.
و الجار أبو عامر اقتنع بأن ولده قد انتقل إلى رحمة ربه شهيداً ، وفوض أمره إلى
الله. ومع ذلك فلا يزال مقتنعاً بأنه حي يرزق، فيكلمه باستمرار بصوت مرتفع ، و يملي
عليه النصائح والإرشادات. تستغرب زوجته ذلك و تنكره عليه ، فيرد بأن إيمانها ضعيف
فهي تحسبه ميتاً ، لكنه حي يرزق ، وتحت رعاية وإشراف ابيه إلى أن يكبر و يشتد عوده
و يبلغ مبلغ الرجال.
وسعاد شقيقة أبي عامر اقتنعت تماماً بأن ولدها قد استشهد ، ولن يستطيع حضور حفلة
زفاف شقيقه ، لكنها أيضاً مقتنعة بأن الحفلة لا يمكن أن تتم إلا بوجوده ، فطلبت أن
يصنعوا لها مجسماً له لينوب عنه بحضور العرس، وكان لها ما أرادت ، والتقط الجميع
الصور التذكارية في الحفلة مع مجسم الشهيد. ولما خلت بنفسها في غرفتها أدركت بأنها
تخادع نفسها، و أن الأرواح و الأجساد لاتعوض أبداً بالمجسمات. فلعنت الحروب منذ بدء
الخليقة حتى اللحظة.
والعمة صبحية استشهد ولدها و زوجته ، وتركا لها ولداً معاقاً ، ولم يتركا لها قيمة
مصاريف العلاج أو الطعام وهي العجوز الفقيرة البائسة شبه العاجزة صحياً ، والعاجزة
كلياً مادياً. كان ولدها ينفق عليها ، ويحضر لها طعامها ودواءها. اليوم هي تجيد فقط
التسول في الشوارع والبكاء.
وشقيقتها أم خليل التي لم تغادر بلدتها يوماً ، ساقها قدرها أن تزور عدة دول متنقلة
بين أبنائها الذين تشردوا في أصقاع الأرض. فبعد استشهاد زوجها جار عليها الزمن،
وقعت تحت رحمة اللئام من مخلوقات الله ، فأصبحت تنال لقمتها بذل و أذى ، بعدما كانت
غنية وسيدة في بيتها وملجأً لكل محتاج ، وعونا لكل ضعيف .
في جميع أركان البلدة بكت وناحت الحجار وصاحت : أيها الموت ــ بالله عليك ــ كفى!
https://www.facebook.com/you.write.syrianews