إلى الإنسان الأصيل والبسيط الذي يحب الحضارة بصدق
وأنت مشغول بالدراسة في بلد القرميد الأحمر ايطاليا تحس بعراقة الماضي الايطالي وجمال العمارة، تتعلم أن تعرف معنى العراقة في المدن وخصوصا مدننا في حوض المتوسط التي تحتضن في داخلها حنين.
إلى الماضي وألفة إنسانية لن تعرفها إلا إذا عشت في أحداها ، هنا في ايطاليا نتعلم الكثير عن أهمية الأمكنة، وأنت يا صديقي لا تدري أهمية مكان تعيش فيه إلا إذا خرجت منه ونظرت إليه من زاوية أخرى و عين أخرى.
ففي أوروبا يحكى الكثير عن عراقة روما وصداها في التاريخ الأوروبي القديم والحديث فهي تصنف مع أثينا كإحدى
اعرق المدن في القارة الأوربية ، و هذا يعود إلى أمور تتعلق بارتباط الذاكرة الأوربية بالتاريخ اليوناني والتاريخ الروماني.
ففي أكاديميات البحث العلمي يسلط الضوء على المدن القديمة وتطورها عبر مراحل التاريخ الإنساني و دورها في التأثير على الشخص الذي يسكن فيها.
فكل مدينة تطبع ناسها بصفات في الشخصية تميزهم عن أناس آخرين يسكنون في مدن أخرى وفي كثير من الأحيان يلعب قدم المدينة دورا كبيرا في تصنيفها على قائمة التراث العالمي>
و دورا في عراقة أناسها و قاطنيها ، ولا تدري مدى السعادة عندما تلتقي احد الأكاديميين الذين يبحثون في هذه المجالات فيسألك من أين أنت فتجيبه بأنك من سورية فيتجه نظره وحديثه فورا للحديث عن دمشق وعراقتها.
ويبدأ لك بالحديث عن أمور في دمشق لا تتوقع من باحث أجنبي أن يلتفت إليها و هذا بدوره يدخلك إلى تفاصيل مهمة جدا في الحديث عن مدننا العريقة وخصوصا إذا ما تحدثنا عن قدمها.
فمثلا العاصمة العريقة روما والتي يحكى الكثير عن قدمها لا تستطيع أن تجاري في قدمها الذي لا يتجاوز عدة قرون قبل الميلاد مدننا التي تعود في معظمها إلى ثلاثة ألاف عام قبل الميلاد عداك عن البعض مدننا الغارقة في القدم والتي تعود إلى سبعة ألاف عام أو أكثر كدمشق أو حلب أو أريحا.
فالدراسات الأكاديمية تركز الضوء كثيرا على هذه المدن الغارقة في القدم بالإضافة إلى نسيجها العمراني وأسوارها وأسواقها و مناطقها الدينية الذي تبدلت و تطورت عبر المراحل التاريخية المختلفة .
ففي مدننا جميعها يحكى عن كل الحضارات الإنسانية التي مرت بها و هذا يدل على قابليتها للحياة على مر السنين فلا يوجد مركز من مراكز هذه المدن إلا وتعاقبت عليه جميع المتغيرات.
ففي مدننا تلاحظ المكان الديني مثلا تعاقب عليه المعبد الوثني لحضارات الشرق الأدنى بكل أطيافها لينتقل إلى المعبد الإغريقي و بدوره إلى المعبد الروماني ومن ثم إلى الكنيسة البيزنطية ومن بعدها الجامع الإسلامي.
هذا الغنى الحضاري و هذه القابلية الكبيرة للحياة لا تجد مثيلا لها إلا في مدننا التي تدرس كنماذج لتشكل المدينة الأولى و استمرارية تعاقب الحضارات كما حصل في مركز المدينة القديمة في دمشق وحلب و غيرها.
و هذا بدوره أعطى ميزات وخصائص للشعب السوري عبر الزمن ،تلاحظ في شخصية المواطن السوري فعندما يخرج من سورية و يختلط مع شعوب أخرى يستطيع التأقلم والتأثير الايجابي في الجو الجديد بسرعة.
وهذا ما يلفت نظر الآخرين حتى تسمع كلمة تترد كثيرا من قبل الآخرين يقولون لك دائما بأنكم انتم السوريون "غير".
وهذا يدل على أنهم يشعرون بوجود خلفية حضارية مميزة لديك ربما لا يدرون من أين أتت، و كيف تراكمت هذه العراقة؟
ولكن أؤكد لك يا صديقي بأنها أتت من ارتباط الإنسان السوري بالمدن العريقة التي يسكن فيها والتي دمغته بعراقتها حتى أصبح هذا الشعور امرأ عاديا لديه لا يحس بقيمته إلا إذا خرج و عاش خارج هذه المدن، وهنا يلفحك حنين جارف إلى سورية والى الأهل والعادات الاجتماعية الجميلة التي تفتقدها.
خارج هذا المحيط و تبدأ لديك عملية إعادة و صياغة لهذه المفاهيم وخصوصا انك بحاجة إليها في كثير من الأحيان.
ولكن هناك مشاعر أخرى جميلة لهذا الجو الجديد فعندما تتجول في روما و تتلمس الكثير من اللمسات السورية سواء
عبر ذكر المعماري ابو لودور الدمشقي الذي بنا الأغلبية العظمى من المدينة القديمة في روما بتكليف من الإمبراطور
تراجان أو عبر سيرة الرسل والقديسين بطرس و بولس و بداية رحلتهم على طريق الخلاص للبشرية التي بدأت من دمشق وانتهت في روما لتحمل في جعبتها وحنايا تاريخها تحية محبة وسلام.
من روما ومن أهل روما إلى دمشق والأهل في سورية لتجعلك أكثر ارتباطا بجذورنا الثقافية وارثنا الحضاري الجميل.
المسكون بحب سورية والمحمل بأوجاع الغربة سليمان غانم