لم تكد الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها حتى اجتاحت العالم موجات عارمة من الإنتفاضات و التقلبات السياسية و الحروب الأهلية استمرت علي مدار خمس عقود من منتصف الأربعينات و حتى منتصف التسعينات
بداية من حرب الكوريتين مروراً بإنشاء جدار برلين و حرب ڤييتنام بالإضافة إلي العديد من الإنقلابات العسكرية في إفريقيا و أمريكا اللاتينية بجوار تداعيات الحرب الباردة و حرب فوكلاند وإنتهاء بسقوط الاتحاد السوڤييتي و تفككه هو و يوغوسلافيا إلي دويلات. و من قبلها سقوط جدار برلين و توحد الألمانيتين.
ولم يكن الوطن العربي بمنأى عن تلك التحولات الجارفة فقد شهد هو الآخر تحولاته الجذرية بدءاً من قيام دولة إسرائيل و سقوط الممالك العربية الكبري وقيام الجمهوريات في مصر وسوريا والعراق مروراً بالحروب الأربعة مع إسرائيل, والحرب الأهلية اللبنانية إنتهاءاً بحربي الخليج الأولي والثانية.
أفاق العالم من سكرات تلك العقود المتقلبة مشبعاً بالإيمان بأن الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان هما السبيل الأمثل لضمان رخاء الشعوب و تعايشها علي اختلاف أجناسهم و ثقافاتهم.
وكان ذلك الدرس الذي وعته دول العالم الثالث و دول شرق أوروبا فبدأت رويداً رويداً تتجه نحو النظام الديمقراطي فرأينا دولاً مثل تركيا والبرازيل والسنغال يضرب بها المثل في احترام الديمقراطية و ضمان مدنية الدولة.
لكن تلك المرة كان العرب بمنأى عن تلك التحولات العظيمة. فلم تشهد دولنا العربية تجربة ديمقراطية وحيدة حتى و إن كانت غير مكتملة الأركان. فلم يجلس على كرسي الحكم إلا العسكريين أو ذوو الخلفية الأمنية. ولم يكن للمدنيين نصيب من تقلد مراكز الحكم إلا في تجربتين أحدهما جاء بالتوريث بعد تعديلات غير مسبوقة في الدستور السوري. والآخر جاء بعد ثورة شعبية في مصر حاملاً معه خلفيته الدينية ومثقلاً بإنتمائه لجماعة لا تؤمن بمدنية الدولة من الأساس.
إذاً لم تولد من رحم أمة العرب تجربة مدنية تواكب العصر وتضمن لشعوبها كرامتها وحريتها ومشاركتها في صنع قرارات أوطانها كما هو السائد حالياً في معظم دول العالم غربه وشرقه مع استثناءات قليلة كما في الصين وكوبا وزيمبابوي علي سبيل المثال.
إذا لدينا عقود طويلة لم ننعم فيها بأي تجربة حكم مدني ديموقراطي في أي من الجمهوريات العربية (لاحظ أننا لم نتكلم هنا عن الملكيات العربية لأن لذلك قصة أخرى)...والحق أن ذلك ليس مستغربا لأننا اذا نظرنا الى طرق تداول السلطة المعروفة في عصرنا الحديث فلن نجدها تخرج عن الانقلابات العسكرية أو الثورات الشعبية أو عبر صناديق الاقتراع ولما كان من المنطقي عدم امتلاك القوى المدنية السلاح الذي يمكنها من الانقلابات العسكرية فإنه من المؤسف ألا تمتلك تلك القوى أي قدرة على الحشد الثوري المطلوب لإسقاط الأنظمة الديكتاتورية القمعية ولا حتى امتلاك القواعد الشعبية الكفيلة بإيصالها الى مقاعد السلطة في حالة الأنظمة شبه الديموقراطية كما هو الحال في تونس مثلا. وبالتالي فإنه يصبح من العبث الحديث عن وصول فصيل غير عسكري أو ديني الى سدة الحكم قبل تغيير الحقائق السابقة.
وهنا يأتي السؤال...ما الذي ينبغي علينا فعله إذا كنا نرنو فعلا الى تخليص المنطقة من الحكم العسكري أو بديله الثيوقراطي, وهل ثمة هناك اقتراحات وحلول تساعد على اصطفاف الناس خلف تيار مدني موحد في مواجهة الديكتاتورية العسكرية والفاشية الدينية؟ الإجابة نعم ... ونطرح في السطور التالية بعضا من تلك الاقتراحات تاركين الباب مفتوحا أمام المزيد من الاجتهادات علنا نصل الى ذلك الحلم يوما ما:
- التعريف بحقيقة المدنية: تعرض مصطلح المدنية الى تشويه جائر ومتعمد من كل الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة خوفا على سلطاتها، ومن رجال الدين خوفا على نفوذهم الروحي وتجارتهم الرائجة مما جعل كلمة المدنية عند البسطاء مرادفا للانحلال وهدم الدين واتهام كل من يدعو اليها إما بإفساد الدين أو العمالة للغرب. وساعد على ذلك غياب القوى المدنية عن الشارع الحقيقي واكتفائهم بالتنظير على شاشات التلفاز أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. لذلك وجب على تلك القوى إعادة صياغة تعريف ذلك المصطلح بمعناه الحقيقي ومحامده الكثيرة كالمواطنة وحرية الرأي وتداول السلطة دون التصادم مع ثوابت المجتمع وبعض أفكاره الراسخة, (على الأقل كمرحلة أولية), لاستقطاب شرائح أكبر من طبقات المجتمع والتي قد تؤيد الأفكار المدنية ولكنها لا ترغب في الإخلال بما اعتادت عليه دهرا وبالأخص فيما يمس ثوابتها الدينية. وأرى أن ذلك لا يضير شيئا طالما أن تلك الثوابت لا تتعدى على حرية الآخرين أو تبث الكراهية تجاه الآخر.
-العمل الحزبي: من الغير معقول أن نجد في معاقل الديمقراطيات الكبرى حزبين أو بالكاد ثلاثة يتصدرون المشهد السياسي بينما نجد في بلد مثل مصر, لازالت الديموقراطية فيها جنينا متعثر الولادة, أكثر من ثمانين حزبا, كلها أحزاب "كارتونية" لا يتعدى عدد أعضاءها الفاعلين ألف عضو ودون أن يكون لها وجود حقيقي الا في سجلات اللجنة المختصة بإشهار الأحزاب, بل يقتصر دورها على أن تكون مجرد ديكور في المسرحية الديموقراطية.
ويشار الى انه لن تقوم لكل تلك الأحزاب قائمة الا باندماجها في حزبين أحدهما يمثل التيار الليبرالي الرأسمالي وآخر يمثل اليسار الاشتراكي. وذلك سوف يؤدي الى مضاعفة عدد القوى الفاعلة داخل كل حزب منهما, كما أنه سيساعد على توحيد المواقف المتناثرة يمينا ويسارا بين أروقة الأحزاب المشتتة, وأخيرا سيؤدي هذه الاندماج الى اظهار القوى الحزبية بالمظهر الجدي أمام متابعي الشأن العام وتغيير الصورة الشائعة عن رجال الأحزاب بأنهم باحثون فقط عن وجاهة اجتماعية لا أكثر. وقد ينتج ذلك بالتبعية عن استقطاب وجوه جديدة من خارج دائرة المنتمين حزبيا الضيقة والتي كانت تنأى بنفسها عن التواجد كـ "كومبارس" في مسرحية هزلية.
-العمل الميداني: يظل العزوف عن العمل الميداني وعدم التواجد الفعال في الشارع من أبرز آفات القوى المدنية. ودون تغيير هذا الواقع سيظل الشارع مختطفا بين أبواق النظام ومنابر الجماعات الدينية دون الوصول الى كافة شرائح المجتمع من خلال المؤتمرات السياسية والفعاليات الثقافية والفنية وكذلك الأعمال الخيرية والتي تمثل أهمية قصوى في استقطاب كتل الناخبين والمؤيدين لأي فصيل سياسي في مجتمع نصفه أو أكثر من الفقراء, كما ستبقى فكرة المدنية معزولة ومغلوطة في أذهان الكثيرين ( مع العلم أن تلك الأعمال الخيرية كانت ولا زالت مصدر القوة الأساسي للجماعات الدينية التي تستغل فقر وجهل البسطاء في عمليات مقايضة مبتذلة...بما معنى "أصواتكم الانتخابية مقابل الإعانات الشهرية بالإضافة الى صكوك غفران تضمن لكم الجنة".).
-تجنب الشبهات: درجت كل الأنظمة على مر العهود السابقة على تحطيم الأحزاب المدنية من خلال استغلال أخطاء ومواقف كوادرها السياسية أو الشخصية في التشهير بتلك الأحزاب وبسمعة أعضائها وإظهارهم بالمظهر المشين أمام الرأي العام لذلك علينا التعلم من الأخطاء السابقة وتوخي الحذر من نقاط معينة بعضها فيما يلي:
-اتخاذ مواقف ثابتة وغير متناقضة تجاه قضايا الشأن العام.
-توحيد الصف وعدم كسر الالتزام الحزبي.
-تجنب إظهار الخلافات الداخلية في وسائل الإعلام والعمل على حلها بعيدا عن دائرة الضوء.
-عدم السعي وراء مكاسب وقتية وهزلية من خلال عقد الصفقات مع الأنظمة الحاكمة, كالحصول على عدد محدود من مقاعد البرلمان مثلا.
-الكشف عن مصادر تمويل الحزب بشفافية لمنع "القيل والقال" الذي يثار في العادة عن تلقي الأحزاب لدعم خارجي أو من دول بعينها وهو ما يثير حفيظة العامة.
-الإفصاح عن أي علاقات أو تحالفات تربط الحزب بين نظرائه في الخارج أو الداخل.
-عدم مخالفة لوائح الحزب من أجل أشخاص بعينهم وإعمال النزاهة في الانتخابات الداخلية للحزب.
-وضع برامج إصلاحية شاملة وإيجاد حلول لمعضلات البلد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عوضا عن الانتقاد المكرر لتلك الأوضاع دون تقديم رؤية إصلاحية قابلة للتطبيق.
وبعد أن ذكرنا نقاطا رأينا أنها أعاقت تواجد القوى المدنية في مكانها الطبيعي على رأس هرم السلطة فإننا نذكر بأن بلدانا كثير مرت بذات الأوضاع وتجاوزتها عندما توافرت الإرادة لدى قواها المدنية من عمال وطلاب وسياسيين ومثقفين على التوحد والعمل من أجل إنهاء عهود الفساد والاستبداد التي امتصت خيرات البلاد وأرزاق العباد.