ليس هناك مهنة إنسانية مثل مهنة الطب، لعلاقتها
بصحة الناس وإنقاذ أرواحهم، ويكاد من يمارسها يكون شبيها بملاك الرحمة، الذي يضع
يده على علة المريض، فيداويه ويعطيه العلاج المناسب لينقذ حياته، فكانت هذه المهنة
رمزا للإنسانية والرأفة والرحمة، وهذا ما يجب أن يكون عليه من يمارس هذه المهنة.
اضطرتني حالتي الصحية المتدهورة، أن أسافر الى مدينة بعيدة لأراجع عند احد الأطباء
المشهورين، من أصحاب شهادات البورد والزمالات الدراسية المتعددة، التي خطها على
لافتة عريضة وضعت عند مدخل عيادته البائسة، ذات الكراسي المتكسرة ومياه المجاري
طافحة بين أرجل المرضى، وحيطانها القديمة منذ ستينات القرن الماضي وسقفها الخشبي
العتيق، الذي تخشى من الجلوس تحته.
بعد انتظار طويل، وتوسل بقاطع التذاكر التي
يخرجها من جيبه، ويعطي الأسبقية لمن يدفع (الإكرامية )، جاء دوري بالدخول على هذا
الطبيب، ذي الملابس الرثة التي تشبه عيادته البالية، وأجلس في غرفة ضيقة، تكاد لا
تتسع إلا لمكتبه الحديدي وكرسي للمريض يجلس قبالته، وبعد أن شرحت له حالتي الصحية،
بدأ بتوزيع أوراق الإحالة الى المختبرات وعيادات الأشعة والسونار، وحسب الأسماء
التي عنده دون غيرها.
بعد العودة بنتائج الفحوصات والأشعة والسونار، كان علي العودة الى الطبيب ( الفطحل
) مرة أخرى، لتشخيص المرض وإعطاء العلاج، فاستعرض التحاليل والأشعة وكتب وصفة
العلاج، دون أن ينبس بكلمة سوى : ( اذهب الى الصيدلية الفلانية، واجلب الدواء )،
فخرجت ابحث عنها فإذا هي بجانب عيادته، وبعد رؤية الصيدلي لورقة الوصفة سارع
بإحضارها لي، فلما سألته عن سعرها كانت الصدمة !، فالدواء معروف عندي بسبب مرضي
ومتداول في أغلب الصيدليات، وأسعاره تكاد تكون متقاربة بينها إلا في هذه الصيدلية،
فسعره إضعاف مضاعفة.
رفضت شراء الدواء من هذه الصيدلية، ورحت ابحث عن غيرها فبالتأكيد سيكون سعره اقل من
ذلك، ولكني كلما ادخل الى صيدلية، ينظر صاحبها طويلا الى الوصفة ثم يجيبني بعدم
توفرها، فأصابني العجب من ذلك حتى وصلت الى الصيدلية الأخيرة، التي ما إن نظر
صاحبها في الوصفة حتى تبسم ضاحكا، وقال : انك لن تجد هذه الوصفة، إلا في الصيدلية
التي بجوار عيادة هذا الدكتور، لأنها وصفة ( مشفرة ) لا يفك رموزها إلا صاحب تلك
الصيدلية، باتفاق مع الدكتور الاختصاص !!.
عندها علمت أن بعض ( الأطباء الجشعين )، يقومون بالاتفاق مع الصيدليات بكتابة وصفات
مشفرة، لا يمكن قراءتها إلا من الصيدلية المعنية، التي ربما هو شريك فيها، أو إن
صاحب هذه الصيدلية يقوم بدفع إيجار عيادة هذا الطبيب، إضافة الى هدايا ثمينة وسفرات
عائلية الى الخارج، وغيرها من الاتفاقات التي تعقد على حساب المواطن المسكين، الذي
ذهب ضحية هؤلاء الذين يعتقد إنهم ملائكة الرحمة.
ويبدو إن بعض الأطباء وذوي المهن الصحية، قد تحولوا الى مصاصين للدماء وتجار في
حياة الناس، متخلين عن شرف المهنة متجردين من إنسانيتهم، جاعلين من المواطن المريض
ضحية لجرائمهم البشعة.