توفي أب لأحد أصدقائي من فترة، فذهبت لأكون معه أثناء الصلاة وتشييع الجنازة والدفن..
وخاصة أنني أعرف أن هذا الصديق عاطفيً وحساس جداً للأمور الوجدانية، ولكن عندما التقيت به بعد الصلاة، سلّم عليّ بشكل طبيعي ولم أجد أيّ أثر للحزن على وجهه.
ذهبنا للدفن، وكانت المفاجأة أن حفّار القبور هو من قام بإنزال الأب إلى لحده، بينما اصطفّ أبناؤه الثلاثة يرمقون ما يحدث دونما اكتراث، وكأن الشخص الذي يتم دفنه هو والد أحد المشيعين، ولا يمت لهم بالقربى، وبعد انتهاء مراسم الدفن والتعزية في المقبرة، تفرّق الرّهط وخرج الجميع ومن بينهم صديقي وهو يتكلم مع من حوله كأن شيئاً لم يحدث.
وقبل أن يقوم أحد القراء باتهام هذا الصديق بالعقوق، علينا أن نسأل أنفسنا سؤالاً مهماً: ما الذي فعله هذا الأب حتى لم يجد من ينزله إلى مثواه الأخير في الدنيا، ثلاثة أولاد يعرف الجميع مدى حسن أخلاقهم وتربيتهم، يتركون أباهم للحفّار، ومن وجهة نظري هناك فرق كبير بين أن تقوم يد الحفار التي اعتادت على دفن الموتى بدفن هذا الأب ببرود كأي واجب آخر يقوم به، وبين أن ينزله أحد أبنائه بكل حنان، ويضعه على الأرض بحرص شديد ولا يريد أن يفارقه، ودموعه الحارّة تدفئ وحشة القبر، شتّان يا إخوتي وأخواتي بين الموقفين.
استفسرت فيما بعد من صديقي عن سبب الموقف الذي رأيناه، فأخبرني أن أباه لم يؤد دوره المطلوب منه، أي أنه ببساطة لم يكن أباً في يوم من الأيام، ولم يساهم في مصروف ولا تربية ولا نصيحة ولا حماية ولا رعاية ولا حتى نظرة محبة، حتى أنه لم يكن يسكن معهم في نفس المنزل، تخلّى عنهم منذ الطفولة مقابل أهوائه الشخصية، كان فقط أباً بيولوجياً، أي أنه كان سبباً في إنجاب أبنائه فقط لا غير، ولكن دور الأبوّة لا يقتصر على هذا الدور، لأن معاني الأبوة أكبر بكثير من مجرد الإنجاب، وأني لأعجب والأمر عندي عجيب، من كل أب يطالب أبناءه بواجباتهم اتجاهه، وهو لم يساهم في أي دعم سواء مادي أو معنوي، فيكون كمن ينتظر حصاداً دون أن يقوم بسقاية ورعاية ما زرعه، ثم يتهمهم بالعقوق في حال لم يقوموا بتأدية هذه الواجبات، وهو الذي لا يعرف أول كلمة نطق بها ابنه أو ابنته.
وأنا أعرف الكثير من الأمثلة على نماذج الآباء البيولوجيون، فكم سمعنا عن أب طرد أبناءه من المنزل بعد زواجه بأخرى شغفته حباً فآثر حبها على أبنائه، أو أب آخر سافر مطارداً وهماً في بلد آخر يود تحقيقه، تاركاً زوجة وأولاداً دونما معيل، فوجد ما يجد الظمآن في السراب، كيف يتوقع هؤلاء الآباء أن يعيش أبناءهم دونما معيل في مثل أيامنا العجاف؟ ولمن تركوا تربيتهم؟ للأم التي ستقوم بالعمل خارج وداخل المنزل؟ أم للشارع ورفاق السوء؟ والنتيجة أن يخرج للمجتمع إما أبناء متمردون على كل ما حولهم، أو مقهورون خانعون ينجرفون مع أي تيار، فتخرج الفتاة لتبحث عن أبيها لتجده في كل شاب أو رجل يمنحها الأمان بغض النظر عن هويته.
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول.
أعرف أباً تزوج امرأة أخرى ولم يخبرها بزواجه الأول، وعندما فاجأته ابنته من الزوجة الأولى مرة بزيارة، عرّفها لزوجته الثانية على أنها (إحدى قريباته)، يا ترى ما كان وقع هذه الكلمة على مسمع الفتاة التي وجدت أن أباها لم يعرّفها على أنها ابنته؟ قالت لي هذه الفتاة بأنها تمنت لو أنها كانت يتيمة، أو لقيطة، خير لها من أب، سمحت له رجولته الزائفة بالتبرؤ منها على مسمعها، حرصاً على مشاعر زوجته الثانية (يا للرقة).
طبعاً هناك الكثير من القصص التي هي أصعب من هذه المواقف بكثير، كالضرب والشتم، واستخدام الغضب والرضا كأسلحة ابتزاز يستعملونها وقت الحاجة، والتحرش الجنسي، والحرمان من الميراث، والتجبر، والتمييز بين الأبناء....ولكن لحظة، هل الشباب دائم؟ أم الصحّة دائمة؟ إن الشيخوخة والخرف وغيرهما من أعراض أرذل العمر آتية لا محالة، فمن أراد أن يُحجز له مكان في دور العجزة، أو أن يموت وحيداً في بيته لا يكشف موته سوى نتانة رائحته، وأن يودعه الحفار القبر، فلقد ذكرت قائمة من الأفعال التي يمكن أن تؤدي إلى هذه النتائج، وهناك المزيد.
أحد الأشخاص ذكر لي من فترة أن من أجمل الأشياء في حياته هو رؤية أبنائه يكبرون من حوله، وهو يرى فيهم حصاد تضحيته وتعبه، وهل هناك أدفأ من الأسرة المتماسكة؟ بنيان مرصوص يشد بعضه بعضاً، تحت ظل أب وضع لبنات الأسرة مع الأم.
ماذا وجد من فقد دفء الأسرة؟ وما هو المقابل؟ شهوة مؤقتة أم مال يفنى وشباب يزول؟
وفي الختام، نحن مطالبون بالإحسان إلى آبائنا سواء كانوا سيئين أم جيدين، وقدوتنا في ذلك نبي الله إبراهيم إذ قال لأبيه الذي هدده وتوعده ( سأستغفر لك ربي)، ولكن شتان بين الإحسان المدفوع بالعاطفة والمحبة، وبين الإحسان النابع من الشعور بالواجب، وذلك كمثال الحفار الآنف ذكره.