كانت جدران البيوت ملاصقة لبعضها ، وكان الشارع يسمى بالحاره، والتي لم تكن تحوي كلها نصف ما تحويه بناية واحده من المباني الحديثة ،وكما كانت البيوت ملتصقة كانت القلوب كذلك ، فأهل الحي يعرفون بعضهم ويسلمون على بعضهم في الحي ويهبون لمساعدة المحتاج ومؤازرته كما يقومون بفتح البيوت على بعضها في الأفراح والأحزان .
بعض البيوت العربية القديمة لازالت تتحدى التغيير والتحديث لتشهد على عنفوانها وثباتها ولازالت شجرات النانرج تتأرجح بداخلها وتعانق دوالي العنب على الرغم من مرور العمر الإفتراضي لهذه المزروعات ، وقد شد جمال هذه الأحياء بعض رجال الأعمال فحولوا بعضها إلى فنادق ومطاعم ، لكنني واثق أن جدران هذه البيوت تشمئز من فعلتهم لأنها لم تتعود أن تأخذ ثمن الطعام الذي يقدم في داخلها .
كان في مدرستنا الثانوية التي تعلمنا فيها ، أستاذ قدير يدرسنا اللغة العربية ،ولم يكن في حينها دورات خصوصية لسرقة أموال الطلاب ،ومما أذكره من شمائل هذا الأستاذ أنه غيور على اللغة كغيرته على أهله فإذا تكلم أحدنا بكلمة عامية أثناء حصته ، فإنه يوجه له إنذارا شديد اللهجة وقد يطرده من الصف إذا تكرر الخطأ .
أستاذ العربية ،هذا ،كان يقول إن اللغة تتعرض للاغتصاب والاستعمار كما تتعرض الأرض والممتلكات ، وإياكم أن تتهاونوا بحمايتها والدفاع عنها ، وكنا نعتبر كلامه هلوسة أو مغالاة في الوصف والتحذير.
رحم الله أستاذنا ، فقد تابعت على إحدى الفضائيات برنامجا تديره مذيعة بارعة في كل شيء إلا اللغة العربية ، وتحاور سياسيا يحتاج إلى (سايس) ليقف بجانبه فيلجمه كلما أساء الى لغتنا ، أما المذيعة العارية بشكلها ومضمونها فقد ختمت اللقاء بجملة شكرت فيها المحاور الضيف ثم التفتت إلى الكاميرا وقالت : نودعكم بقبلة ساخنة وإلى اللقاء ،و أنزلت رجلها التي كانت في مواجهة السياسي الضيف المحاور .
لم أفهم شيئا من موضوع الحوار لأنه كان فارغا كعقل الضيف المحاور ، وسيئا كلغة المذيعة وقطعة القماش التي كانت تلصقها على جسمها ، لكنني توجهت إلى مكتبتي لأبحث في القواميس عن معنى قبلة ساخنة التي ودعت بها المذيعة مشاهديها .
وجدت في القواميس مرادفات كثيرة لكلمة قبله وأنواعها ومصادرها كما وجدت تفسيرات كثيرة لكلمة ساخنة ، لكنني لم أجد مرادفا للكلمتين مع بعضهما ، فلجأت إلى موقع (جوجل) لعله ينقذني من جهلي باللغة العربية .
عندما أدخلت كلمة قبله ساخنة إلى البحث فوجئت بموقع إباحي يحوي صورا لا تليق بأي حرف من حروف اللغة العربية ولا كلمة من كلماتها .
تذكرت حينها كلمة أستاذي الذي قال لنا : إن اللغة يمكن أن تتعرض الى الاغتصاب وعرفت أن بيوتنا القديمة وحاراتها ، بحجارتها وشجيراتها قد طالها الاغتصاب من الداخل والخارج ،واغتصب لغتنا وأرضنا اقزام استطاعوا أن يمتلكوا كل شيء بعد بيعهم ثروات أرضهم للشيطان ، وأخشى أن يصل الاغتصاب الى قلوبنا كما وصل إلى قلوب بعض القادة العرب فأصبحوا كالبغايا في حوزة قواد صهيوني .
د . عمر محمد بلط